فصل: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: (الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِينَ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ لَا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


فَصْلٌ ‏[‏في أَقْسَامِ الْحَظِّ الْمَطْلُوبِ بِالْعِبَادَاتِ‏]‏

وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ الْمَطْلُوبُ بِالْعِبَادَاتِ مَا فِي الدُّنْيَا؛ فَهُوَ قِسْمَان‏:‏

قِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى صَلَاحِ الْهَيْئَةِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ عِنْدَ النَّاسِ، وَاعْتِقَادِ الْفَضِيلَةِ لِلْعَامِلِ بِعَمَلِهِ‏.‏

وَقِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى نَيْلِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذَا ضَرْبَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ يَرْجِعُ إِلَى مَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاءَاةِ النَّاسِ بِالْعَمَلِ‏.‏

وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُرَاءَاةِ لِيَنَالَ بِذَلِكَ مَالًا أَوْ جَاهًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ يَرْجِعُ إِلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ عِنْدَ النَّاسِ وَاعْتِقَادِ الْفَضِيلَةِ‏.‏

فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَصْدُ مَتْبُوعًا؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ رِيَاءٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَبْعَثُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ قَصْدُ الْحَمْدِ وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ الْخَيْرُ، وَيَنْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ كَوْنُهُ يُصَلِّي فَرْضَهُ أَوْ نَفْلَهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ‏.‏

وَإِنْ كَانَ تَابِعًا؛ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْأَصْلِ؛ فَوَقَعَ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُصَلِّي لِلَّهِ ثُمَّ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ، وَيُحِبُّ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ؛ فَكَرِهَ رَبِيعَةُ هَذَا، وَعَدَّهُ مَالِكٌ مِنْ قَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ الْعَارِضَةِ لِلْإِنْسَانِ؛ أَيْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي لِلْإِنْسَانِ إِذْ سَرَّهُ مَرْأَى النَّاسِ لَهُ عَلَى الْخَيْرِ؛ فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ إِنَّكَ لَمُرَاءٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ لَا يُمْلَكُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 84‏]‏‏.‏‏.‏ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ «وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَهَا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ لِأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا»‏.‏

وَطَلَبُ الْعِلْمِ عِبَادَةٌ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ‏:‏ سَأَلَتُ شَيْخَنَا الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيَّ الصُّوفِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 160‏]‏‏:‏ مَا بَيَّنُوا‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَظْهَرُوا أَفْعَالَهُمْ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاحِ وَالطَّاعَاتِ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ؛ لِتَثْبُتَ أَمَانَتَهُ، وَتَصِحَّ إِمَامَتُهُ، وَتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ‏:‏ وَيَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَالْغَزَالِيُ يَجْعَلُ مِثْلَ هَذَا مِمَّا لَا تَتَخَلَّصُ فِيهِ الْعِبَادَةُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا يَرْجِعُ إِلَى مَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ، مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاءَاةِ الْغَيْرِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْأُنْسِ بِالْجِيرَانِ، أَوِ الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ لِمُرَاقَبَةٍ أَوْ مُرَاصَدَةٍ أَوْ مُطَالَعَةِ أَحْوَالٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الصَّوْمُ تَوْفِيرًا لِلْمَالِ، أَوِ اسْتِرَاحَةً مِنْ عَمَلِ الطَّعَامِ وَطَبْخِهِ، أَوِ احْتِمَاءً لِأَلَمٍ يَجِدُهُ، أَوْ مَرْضٍ يَتَوَقَّعُهُ أَوْ بِطْنَةٍ تَقَدَّمَتْ لَهُ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ الصَّدَقَةُ لِلَذَّةِ السَّخَاءِ وَالتَّفَضُّلِ عَلَى النَّاسِ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ الْحَجُّ لِرُؤْيَةِ الْبِلَادِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْأَنْكَادِ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ لِتَبَرُّمِهِ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، أَوْ إِلْحَاحِ الْفَقْرِ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ الْهِجْرَةُ مَخَافَةُ الضَّرَرِ فِي النَّفْسِ أَوِ الْأَهْلِ أَوِ الْمَالِ‏.‏

وَالسَّادِسُ‏:‏ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ لِيَحْتَمِيَ بِهِ عَنِ الظُّلْمِ‏.‏

وَالسَّابِعُ‏:‏ الْوُضُوءُ تَبَرُّدًا‏.‏

وَالثَّامِنُ‏:‏ الِاعْتِكَافُ فِرَارًا مِنَ الْكِرَاءِ‏.‏

وَالتَّاسِعُ‏:‏ عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ لِيُفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ‏.‏

وَالْعَاشِرُ‏:‏ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ لِيَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ كَرْبِ الصَّمْتِ وَيَتَفَرَّجَ بِلَذَّةِ الْحَدِيثَ‏.‏

وَالْحَادِي عَشَرَ‏:‏ الْحَجُّ مَاشِيًا لِيَتَوَفَّرَ لَهُ الْكِرَاءُ‏.‏

وَهَذَا الْمَوْضِعُ أَيْضًا مَحَلُّ اخْتِلَافٍ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْمَذْكُورُ تَابِعًا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ، وَقَدِ الْتَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ أَخَفَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ، وَأَمَّا ابْنُ الْعَرَبِيِّ، فَذَهَبَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ مَجَالَ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدِينَ أَوْ عَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا؛ فَابْنُ الْعَرَبِيِّ يَلْتَفِتُ إِلَى وَجْهُ الِانْفِكَاكِ فَيُصَحِّحُ الْعِبَادَاتِ، وَظَاهِرُ الْغَزَالِيِّ الِالْتِفَاتُ إِلَى مُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ وُجُودًا، كَانَ الْقَصْدَانِ مِمَّا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُمَا أَوْ لَا، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْخِلَافُ فِيهَا وَاقِعٌ، وَرَأْيُ أَصْبَغَ فِيهَا الْبُطْلَانُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ اتَّجَهَ النَّظَرَانِ، وَظَهَرَ مَغْزَى الْمَذْهَبَيْنِ‏.‏

عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الِانْفِكَاكِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الِانْفِكَاكُ أَوْجَهُ؛ لِمَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيم‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 198‏]‏، يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْفِرَارِ مِنَ الْأَنْكَادِ بِالْحَجِّ أَوْ الْهِجْرَة‏:‏ إِنَّهُ دَأَبُ الْمُرْسَلِينَ؛ فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 99‏]‏، وَقَالَ الْكَلِيمُ‏:‏ ‏{‏فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 21‏]‏، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ فَكَانَ يَسْتَرِيحُ إِلَيْهَا مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا، وَكَانَ فِيهَا نَعِيمُهُ وَلَذَّتُهُ، أَفَيُقَالُ‏:‏ إِنَّ دُخُولَهُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَادِحٌ فِيهَا‏؟‏ كَلَّا، بَلْ هُوَ كَمَالٌ فِيهَا وَبَاعِثٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِيهَا‏.‏

وَفِي الصَّحِيح‏:‏ «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»‏.‏

ذَكَرَ ابْنُ بَشْكُوَالَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَدَّادِ قَالَ‏:‏ حَضَرْتُ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ بْنَ زَرْبٍ شَكَا إِلَى التَّرْجِيلِيِّ الْمُتَطَبِّبِ ضَعْفَ مَعِدَتِهِ وَضَعْفَ هَضْمِهِ، عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَعْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ، وَسَأَلَهُ عَنِ الدَّوَاءِ، فَقَالَ‏:‏ اسْرُدْ الصَّوْمَ تَصْلُحْ مَعِدَتُكَ‏.‏‏.‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَلَى غَيْرِ هَذَا دُلَّنِي، مَا كُنْتُ لِأُعَذِّبَ نَفْسِيَ بِالصَّوْمِ إِلَّا لِوَجْهِهِ خَالِصًا، وَلِي عَادَةٌ فِي الصَّوْمِ الْاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ لَا أَنْقُلُ نَفْسِي عَنْهَا‏.‏ قَالَ أَبُو عَلِيٌّ‏:‏ وَذَكَرْتُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَدِيثَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَعْنِي‏:‏ هَذَا الْحَدِيثَ- وَجَبُنْتُ عَنْ إِيرَادِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَأَحْسَبُنِي ذَاكَرْتُهُ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ؛ فَسَلَّمَ لِلْحَدِيثِ‏.‏

وَقَدْ بَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجُلًا لِيَكُونَ رَصَدًا فِي شِعْبٍ، فَقَامَ يُصَلَّى وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِالْإِقَامَةِ فِي الشِّعْبِ إِلَّا الْحِرَاسَةَ وَالرَّصْدِ‏.‏

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا يُرَاعِيهِ الْإِمَامُ فِي صِلَاتِهِ مِنْ أَمْرِ الْجَمَاعَةِ؛ كَانْتِظَارِ الدَّاخِلِ لِيُدْرِكَ الرُّكُوعَ مَعَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَالِكٌ فَقَدْ عَمِلَ بِهِ غَيْرُهُ، وَكَالتَّخْفِيفِ لِأَجَلِ الشَّيْخِ وَالضَّعِيفِ وَذِي الْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنِّي لِأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَكَرَدِّ السَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عَمَلٌ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ، مَفْعُولٌ فِيهَا مَقْصُودٌ يُشْرِكُ قَصْدَ الصَّلَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَقْدَحُ فِي حَقِيقَةِ إِخْلَاصِهَا‏.‏

بَلْ لَوْ كَانَ شَأْنُ الْعِبَادَةِ أَنْ يَقْدَحَ فِي قَصْدِهَا قَصْدُ شَيْءٍ آخَرَ سِوَاهُ؛ لَقَدَحَ فِيهَا مُشَارَكَةُ الْقَصْدِ إِلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى، كَمَا إِذَا جَاءَ الْمَسْجِدَ قَاصِدًا لِلتَّنَفُّلِ فِيهِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَالْكَفِّ عَنْ إِذَايَةِ النَّاسِ، وَاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، فَإِنَّ كُلَّ قَصْدٍ مِنْهَا شَابَ غَيْرَهُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ إِخْلَاصِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِاتِّفَاقٍ، بَلْ كُلُّ قَصْدٍ مِنْهَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَحْمُودٌ شَرْعًا، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ غَيْرَ عِبَادَةٍ مِنَ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، فَحُظُوظُ النُّفُوسِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِنْسَانِ لَا يُمْنَعُ اجْتِمَاعُهَا مَعَ الْعِبَادَاتِ إِلَّا مَا كَانَ بِوَضْعِهِ مُنَافِيًا لَهَا، كَالْحَدِيثِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالنَّوْمِ، وَالرِّيَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَمَّا مَا لَا مُنَافَاةَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَقْدَحُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ فِي الْعِبَادَةِ‏؟‏ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُنَازَعُ فِي أَنَّ إِفْرَادَ قَصْدِ الْعِبَادَةِ عَنْ قَصْدِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْلَى، وَلِذَلِكَ إِذَا غَلَبَ قَصْدُ الدُّنْيَا عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ كَانَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، فَلَمْ يُعْتَدْ بِالْعِبَادَةِ فَإِنْ غَلَبَ قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَالْحُكْمُ لَهُ، وَيَقَعُ التَّرْجِيحُ فِي الْمَسَائِلِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لِلْمُجْتَهِدِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا يُرْجَعُ إِلَى الْمُرَاءَاتِ، فَأَصْلُ هَذَا إِذَا قُصِدَ بِهِ نَيْلُ الْمَالِ أَوِ الْجَاهِ، فَهُوَ الرِّيَاءُ الْمَذْمُومُ شَرْعًا، وَأَدْهَى مَا فِي ذَلِكَ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا بِقَصْدِ إِحْرَازِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَيَلِي ذَلِكَ عَمَلُ الْمُرَائِينَ الْعَامِلِينَ بِقَصْدِ نَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ؛ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِطَالَةِ فِيهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْعَمَلُ يَكُونُ إِصْلَاحًا لِلْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْعِبَادِ‏]‏

وَأَمَّا الثَّانِي؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ إِصْلَاحًا لِلْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْعِبَادِ، كَالنِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْعَاجِلَةِ؛ فَهُوَ حَظٌّ أَيْضًا قَدْ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ وَرَاعَاهُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ بِالْقَوَانِينِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ؛ فَطَلَبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ فَكَانَ حَقًّا وَصَحِيحًا، هَذَا وَجْهٌ‏.‏

وَوَجْهٌ ثَانٍ‏:‏ أَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبُ الْحَظِّ فِي ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْتِمَاسِهِ وَطَلَبِهِ؛ لَاسْتَوَى مَعَ الْعِبَادَاتِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ إِلَى الِامْتِثَالِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَادَاتِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهَذَا كَافٍ فِي كَوْنِ الْقَصْدِ إِلَى الْحَظِّ لَا يَقْدَحُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَنْهَا ذَلِكَ الْحَظُّ، بَلْ لَوْ فَرَضْنَا رَجُلًا تَزَوَّجَ لِيُرَائِيَ بِتَزَوُّجِهِ، أَوْ لِيُعَدَّ مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَصَحَّ تَزَوُّجُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ نِيَّةَ الْعِبَادَةِ مِنْ حَيْثُ تَزَوَّجَ، فَيَقْدَحَ فِيهَا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا‏.‏

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ‏:‏ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ طَلَبُ الْحَظِّ فِيهَا سَائِغًا، لَمْ يَصِحَّ النَّصُّ عَلَى الِامْتِنَانِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏الْقَصَص‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا‏}‏ ‏[‏النَّبَأ‏:‏ 10- 11‏]‏‏.‏

إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي مَعْرِضِ مُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ لَا يَقَعُ النَّصُّ عَلَيْهِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كُلْفَةٌ وَخِلَافٌ لِلْعَادَاتِ، وَقَطْعٌ لِلْأَهْوَاءِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، إِلَّا مَا نَحَا نَحْوَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 216‏]‏، بَعْدَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 216‏]‏، بِخِلَافِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَتُقْضَى بِهِ الْأَوْطَارُ، وَتُفْتَحُ بِهِ أَبْوَابُ التَّمَتُّعِ، وَاللَّذَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَتُسَدُّ بِهِ الْخَلَّاتُ الْوَاقِعَةُ مِنَ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ، وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ، وَأَضْرَابِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ مُنَاسِبٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَى هَذَا الْبِسَاطُ الْأَخْذَ بِهَا مِنْ جِهَةِ مَا وَقَعَتِ الْمِنَّةُ بِهَا، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ عَلَى ذَلِكَ قَدْحًا فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا نَقْصًا مِنْ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ مُطَالَبُونَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ لِلَّذِي امْتَنَّ بِهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ لَهَا بِقَصْدِ التَّجَرُّدِ عَنِ الْحَظِّ قَادِحًا أَيْضًا؛ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَفْهُومُ مِنَ الشَّارِعِ إِثْبَاتَ الْحَظِّ وَالِامْتِنَانَ بِهِ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يُقَالُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ أَخْذَهَا مِنْ حَيْثُ تَلْبِيَةِ الْأَمْرِ أَوِ الْإِذْنِ قَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِهِ الْحَظُّ وَبِالتَّبَعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نُدِبَ إِلَى التَّزَوُّجِ مَثَلًا فَأَخَذَهُ مِنْ حَيْثُ النَّدْبِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ لَمْ يُنْدَبُ إِلَيْهِ لَتَرَكَهُ مَثَلًا، فَإِنَّ أَخْذَهُ مِنْ هُنَالِكَ قَدْ حَصَلَ لَهُ بِهِ أَخْذُهُ مِنْ حَيْثُ الْحَظِّ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ التَّنَاسُلَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ آثَارًا حَسَنَةً؛ مِنَ التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ، وَالِانْغِمَارِ فِي نِعَمٍ يَتَنَعَّمُ بِهَا الْمُكَلَّفُ كَامِلَةً، فَالتَّمَتُّعُ بِالْحَلَالِ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، فَكَانَ قَصْدُ هَذَا الْقَاصِدِ بَرِيئًا مِنَ الْحَظِّ، وَقَدِ انْجَرَّ فِي قَصْدِهِ الْحَظُّ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ نَفْسَ التَّمَتُّعِ؛ فَلَا مُخَالَفَةَ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ، بَلْ لَهُ مُوَافَقَتَان‏:‏ مُوَافَقَةٌ مِنْ جِهَةِ قَبُولِ مَا قَصَدَ الشَّارِعِ أَنْ يَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ، وَهُوَ التَّمَتُّعُ، وَمُوَافَقَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَمْرَ الشَّارِعِ فِي الْجُمْلَةِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْمُكَلَّفِ لَهُ فِي حُسْنِ الْأَدَبِ، فَكَانَ لَهُ تَأَدُّبٌ مَعَ الشَّارِعِ فِي تَلْبِيَةِ الْأَمْرِ زِيَادَةً إِلَى حُصُولِ مَا قَصَدَهُ مِنْ نَيْلِ حَظِّ الْمُكَلَّفِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَفِي قَصْدِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ الْقَصْدُ إِلَى الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ مِنْ حُصُولِ النَّسْلِ، فَهُوَ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ مُلَبٍّ لِلشَّارِعِ فِي هَذَا الْقَصْدِ، بِخِلَافِ طَلَبِ الْحَظِّ فَقَطْ؛ فَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَطَالِبُ الْحَظِّ فِي هَذَا الْوَجْهِ مَلُومٌ؛ إِذْ أَهْمَلَ قَصَدَ الشَّارِعِ فِي الْأَمْرِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُهْمِلْهُ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّهُ حِينَ أَلْقَى مَقَالِيدَهُ فِي نَيْلِ هَذِهِ الْحُظُوظِ لِلشَّارِعِ عَلَى الْجُمْلَةِ حَصَلَ لَهُ بِالضِّمْنِ مُقْتَضَى مَا قَصَدَ الشَّارِعُ، فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ فِي نَيْلِ الْحُظُوظِ مُنَافِيًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْأَصْلِيِّ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَالدَّاخِلُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْحُظُوظِ دَاخِلٌ بِحُكْمِ الشَّرْطِ الْعَادِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَلِدُ، وَيَتَكَلَّفُ التَّرْبِيَةَ وَالْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ؛ كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ إِذَا أَتَى الْأَمْرُ مِنْ بَابِهِ أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهَا، لَكِنْ لَا يَسْتَوِي الْقَصْدَان‏:‏ قَصْدُ الِامْتِثَالِ ابْتِدَاءً حَتَّى كَانَ الْحَظُّ حَاصِلًا بِالضِّمْنِ، وَقَصْدُ الْحَظِّ ابْتِدَاءً حَتَّى صَارَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ بِالضِّمْنِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ قَصْدَ الْحَظِّ فِي هَذَا الْقِسْمِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَمَلِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَطَالِبُ الْحَظِّ إِذَا فَرَضْنَاهُ لَمْ يَقْصِدْ الِامْتِثَالَ عَلَى حَالٍ، وَإِنَّمَا طَلَبَ حَظَّهُ مُجَرَّدًا، بِحَيْثُ لَوْ تَأَتَّى لَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَأَخَذَ بِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ؛ فَهَلْ يَكُونُ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّهِ مَوْجُودًا بِالْقُوَّةِ أَمْ لَا‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى حَظِّهِ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ؛ فَرُجُوعُهُ إِلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ قَصْدٌ إِلَيْهِ، وَقَصْدُ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ يَتَضَمَّنُ امْتِثَالَ الْأَمْرِ أَوِ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ، وَهُوَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ الْأَصْلِيُّ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِي مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ،

وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالْحَظِّ وَالْهَوَى بِحَيْثُ ‏[‏لَوْ‏]‏ يَكُونُ قَصْدُ الْعَامِلِ تَحْصِيلَ مَطْلُوبِهِ وَافَقَ الشَّارِعُ أَوْ خَالَفَهُ، فَلَيْسَ مِنَ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ أَظْهَرُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ أَمَّا كَوْنُهُ عَامِلًا عَلَى قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ عَامِلٌ بِالْهَوَى لَا بِالْحَقِّ، وَأَمَّا عَمَلُهُ عَلَى غَيْرِ قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ فَلَيْسَ عَامِلًا بِالْهَوَى بِإِطْلَاقٍ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّ الْعَامِلَ بِالْجَهْلِ فَيُخَالِفُ أَمْرَ الشَّارِعِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّاسِي، فَلَا يُنْسَبُ عَمَلُهُ إِلَى الْهَوَى هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، وَإِذَا وَافَقَ أَمْرُ الشَّرْعِ جَهْلًا، فَسَيَأْتِي أَنَّ يَصِحَّ عَمَلُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا يَكُونُ عَمَلُهُ بِالْهَوَى أَيْضًا وَإِلَى هَذَا، فَالْعَامِلُ بِالْهَوَى إِذَا صَادَفَ أَمْرَ الشَّارِعِ فَلِمَ تَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ عَامِلٌ بِالْهَوَى وَقَدْ وَافَقَ قَصْدُهُ مَعَ مَا مَرَّ آنِفًا أَنَّ مُوَافَقَةَ أَمْرِ الشَّارِعِ تُصَيِّرُ الْحَظَّ مَحْمُودًا‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ عَلَى غَيْرِ قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ؛ فَلَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لَهُ، بَلِ الْحَالَاتُ ثَلَاثٌ‏:‏

حَالٌ يَكُونُ فِيهَا قَاصِدًا لِلْمُوَافَقَةِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُصِيبَ بِإِطْلَاقٍ؛ كَالْعَالِمِ يَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَ؛ فَلَا إِشْكَالَ أَوْ يُصِيبُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ أَوْ لَا يُصِيبُ، فَهَذَانِ قِسْمَانِ يَدْخُلُ فِيهِمَا الْعَامِلُ بِالْجَهْلِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ إِذَا ظَنَّ فِي تَقْدِيرِهِ أَنَّ الْعَمَلَ هَكَذَا، وَأَنَّ الْعَمَلَ مَأْذُونٌ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ لَمْ يَقْصِدْ مُخَالَفَةً، لَكِنْ فَرَّطَ فِي الِاحْتِيَاطِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، فَيُؤَاخَذُ فِي الطَّرِيقِ، وَقَدْ لَا يُؤَاخَذُ إِذَا لَمْ يُعَدَّ مُفَرِّطًا، وَيَمْضِي عَمَلُهُ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا‏.‏

وَأَمَّا إِذَا قَصَدَ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الشَّارِعِ فَسَوَاءٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَافَقَ أَوْ خَالَفَ ‏[‏فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَتِهِ كَمَا‏]‏ لَا اعْتِبَارَ بِمَا يُخَالِفُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ الْقَصْدَ بِإِطْلَاقٍ، وَفِي الْعَادَاتِ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ مَا وَافَقَ دُونَ مَا خَالَفَ؛ لِأَنَّ مَا لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي صِحَّتِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَتِهِ فِي الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ وَلَا مُخَالَفَتِهِ، كَمَنْ عَقَدَ عَقْدًا يَقْصِدُ أَنَّهُ فَاسِدٌ فَكَانَ صَحِيحًا، أَوْ شَرِبَ جُلَّابًا يَظُنُّهُ خَمْرًا؛ إِلَّا أَنَّ عَلَيْهِ فِي قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ دَرْكَ الْإِثْمِ‏.‏

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ مُوَافَقَةً وَلَا مُخَالَفَةً؛ فَهُوَ الْعَمَلُ عَلَيَّ مُجَرَّدِ الْحَظِّ أَوِ الْغَفْلَةِ؛ كَالْعَامِلِ وَلَا يَدْرِي مَا الَّذِي يَعْمَلُ، أَوْ يَدْرِي وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ مُجَرَّدَ الْعَاجِلَةِ، مُعْرِضًا عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَحُكْمُهُ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمُ الصِّحَّةِ؛ لِعَدَمِ نِيَّةِ الِامْتِثَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفُ النَّاسِي وَلَا الْغَافِلُ وَلَا غَيْرُ الْعَاقِلِ، وَفِي الْعَادَاتِ الصِّحَّةُ إِنْ وَافَقَ قَصْدَ الشَّارِعِ، وَإِلَّا؛ فَعَدَمُ الصِّحَّةِ‏.‏

وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَظَرٌ إِذْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْمَقْصِدَ هُنَا لَمَّا انْتَفَى؛ فَالْمُوَافَقَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِإِمْكَانِ الِاسْتِرْسَالِ بِهَا فِي الْمُخَالَفَةِ وَقَدْ يَظْهَرُ لِهَذَا تَأْثِيرٌ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمَحْجُورِ؛ كَالطِّفْلِ وَالسَّفِيهِ الَّذِي لَا قَصْدَ لَهُ إِلَى مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي إِصْلَاحِ الْمَالِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ بِعَدَمِ نُفُوذِ تَصَرُّفَاتِهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ وَافَقَتِ الْمَصْلَحَةِ، وَقِيلَ بِنُفُوذِ مَا وَافَقَ الْمَصْلَحَةَ مِنْهَا لَا مَا خَالَفَهَا، عَلَى تَفْصِيلٍ أَصْلُهُ هَذَا النَّظَرُ، وَهُوَ أَنَّ مُطْلَقَ الْقَصْدِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ غَيْرُ مُنْتَهِضٍ، فَهُوَ بِهَذَا الْقَصْدِ مُخَالِفٌ لِلشَّارِعِ، وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ الْقَصْدُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ، وَقَدْ نَشَأَ هُنَا مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ مُوَافَقَةُ قَصْدِ الشَّارِعِ؛ فَصَحَّ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في الْمَقْصُودِ بِالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ هُنَا‏]‏

حَيْثُ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْعَادِيَّةِ وَإِنْ خَالَفَ الْقَصْدُ قَصْدَ الشَّارِعِ؛ فَإِنَّ مَا مَضَّى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي نَوْعِ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ؛ فَكُلُّ مَا خَالَفَ قَصْدَ الشَّارِعِ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنْ بِالتَّفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏أَقْسَامُ الْمَطْلُوبِ الشَّرْعِيِّ‏]‏

الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ ضَرْبَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادِيَّاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، فِي الِاكْتِسَابَاتِ وَسَائِرِ الْمُحَاوَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، الَّتِي هِيَ طُرُقُ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ؛ كَالْعُقُودِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَالتَّصَارِيفِ الْمَالِيَّةِ عَلَى تَنَوُّعِهَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَادَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْمُكَلَّفِ، مِنْ جِهَةِ تَوَجُّهِهِ إِلَى الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَالنِّيَابَةُ فِيهِ صَحِيحَةٌ، فَيَقُومُ فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَنُوبُ مَنَابَهُ فِيمَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهَا؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَهُ فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ لَهُ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُ، بِالْإِعَانَةِ وَالْوِكَالَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي يَطْلُبُ بِهَا الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَالِحَةٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا سِوَاهُ؛ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارَةِ، وَالْخِدْمَةِ، وَالْقَبْضِ، وَالدَّفْعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لِحِكْمَةٍ لَا تَتَعَدَّى الْمُكَلَّفَ عَادَةً أَوْ شَرْعًا؛ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَاللُّبْسِ، وَالسُّكْنَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ، وَكَالنِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ التَّابِعَةِ لَهُ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعِ الَّتِي لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا شَرْعًا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مَفْرُوغٌ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ، لِأَنَّ حِكْمَتَهُ لَا تَتَعَدَّى صَاحِبَهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ وُجُوهُ الْعُقُوبَاتِ وَالِازْدِجَارِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الزَّجْرِ لَا يَتَعَدَّى صَاحِبَ الْجِنَايَةِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْمَالِ؛ فَإِنَّ النِّيَابَةَ فِيهِ تَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ دَائِرًا بَيْنَ الْأَمْرِ الْمَالِيِّ وَغَيْرِهِ؛ فَهُوَ مَجَالُ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، كَالْحَجِّ وَالْكَفَّارَاتِ؛ فَالْحَجُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ التَّعَبُّدُ؛ فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، أَوِ الْمَالُ؛ فَتَصِحُّ، وَالْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا زَجْرٌ فَتَخْتَصُّ، أَوْ جَبْرٌ فَلَا تَخْتَصُّ، وَكَالتَّضْحِيَةِ فِي الذَّبْحِ بِنَاءً عَلَى مَا بُنِيَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ‏.‏

فَالْحَاصِلُ أَنَّ حِكْمَةَ الْعَادِيَّاتِ إِنِ اخْتُصَّتْ بِالْمُكَلَّفِ؛ فَلَا نِيَابَةَ، وَإِلَّا صَحَّتِ النِّيَابَةُ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَالْتَعَبُّدَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يَقُومُ فِيهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُغْنِي فِيهَا عَنِ الْمُكَلَّفِ غَيْرُهُ، وَعَمَلُ الْعَامِلِ لَا يُجْتَزَى بِهِ غَيْرُهُ، وَلَا يُنْتَقَلُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ إِنْ وُهِبَ، وَلَا يُحْمَلُ إِنْ تَحَمَّلَ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ الْقَطْعِيِّ نَقْلًا وَتَعْلِيلًا‏.‏

فَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 164‏]‏‏.‏

‏{‏وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ ‏[‏النَّجْم‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وَفِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 15‏]‏ فِي مَوَاضِعَ‏.‏

وَفِي بَعْضِهَا‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 18‏]‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ‏}‏ ‏[‏الْقِصَص‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وَأَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ لَا يَمْلِكُ فِيهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الِانْفِطَار‏:‏ 19‏]‏؛ فَهَذَا عَامٌّ فِي نَقْلِ الْأُجُورِ أَوْ حَمْلِ الْأَوْزَارِ وَنَحْوِهَا‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ حِينَ أَنْذَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ‏:‏ «يَا بَنِي فُلَانٍ‏!‏ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ مَقْصُودَ الْعِبَادَاتِ الْخُضُوعُ لِلَّهِ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَالتَّذَلُّلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِانْقِيَادُ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِهِ؛ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ حَاضِرًا مَعَ اللَّهِ، وَمُرَاقِبًا لَهُ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ سَاعِيًا فِي مَرْضَاتِهِ، وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ، وَالنِّيَابَةُ تُنَافِي هَذَا الْمَقْصُودَ وَتُضَادِّهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونِ الْعَبْدُ عَبْدًا وَلَا الْمَطْلُوبُ بِالْخُضُوعِ وَالتَّوَجُّهِ خَاضِعًا وَلَا مُتَوَجِّهًا، إِذَا نَابَ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَامَ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ؛ فَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَاضِعُ الْمُتَوَجِّهُ، وَالْخُضُوعُ وَالتَّوَجُّهُ وَنَحْوُهُمَا إِنَّمَا هُوَ اتِّصَافٌ بِصِفَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالِاتِّصَافُ لَا يَعْدُو الْمُتَّصِفَ بِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالنِّيَابَةُ إِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الْمَنُوبَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِبِ، حَتَّى يُعَدُّ الْمَنُوبُ عَنْهُ مُتَّصِفًا بِمَا اتَّصَفَ بِهِ النَّائِبُ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي الْعِبَادَاتِ كَمَا يَصِحُّ فِي التَّصَرُّفَاتِ؛ فَإِنَّ النَّائِبَ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ مَثَلًا لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمُدَانِ صَارَ الْمُدَانُ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِدِينِهِ؛ فَلَا مُطَالَبَةَ لِلْغَرِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ، وَهَذَا فِي التَّعَبُّدِ لَا يُتَصَوَّرُ مَا لَمْ يَتَّصِفْ الْمَنُوبُ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا اتَّصَفَ بِهِ النَّائِبُ، وَلَا نِيَابَةَ إِذْ ذَاكَ عَلَى حَالٍ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ لَوْ صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لَصَحَّتْ فِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ؛ كَالْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَالرِّضَى وَالتَّوَكُّلِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنِ التَّكَالِيفُ مَحْتُومَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَيْنًا لِجَوَازِ النِّيَابَةِ؛ فَكَانَ يَجُوزُ أَمْرُهُ ابْتِدَاءً عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالِاسْتِنَابَةِ، وَلَصَحَّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَصَالِحِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَعْيَانِ مِنَ الْعَادِيَّاتِ؛ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْوِقَاعِ، وَاللِّبَاسِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَفِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَأَشْبَاهِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الزَّجْرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ؛ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُخْتَصَّةٌ؛ فَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّعَبُّدَاتِ‏.‏

وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا عُمُومَاتٌ لَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ؛ لِأَنَّهَا مُحْكَمَاتٌ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ احْتِجَاجًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَرَدًّا عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ حَمْلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ أَوْ دَعْوَاهُمْ ذَلِكَ عِنَادًا، وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِهَا حُجَّةٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعُمُومَ إِذَا خُصَّ لَا يَبْقَى حُجَّةً فِي الْبَاقِي؛ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ؛ فَلِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ النَّاظِرُ الْعُمُومَاتِ الْمَكِّيَّةَ وَجَدَ عَامَّتَهَا عَرِيَّةً عَنِ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعَارِضَةِ؛ فَيَنْبَغِي لِلَبِيبٍ أَنْ يَتَّخِذَهَا عُمْدَةً فِي الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهَا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ هَذَا‏؟‏ وَقَدْ جَاءَ فِي النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَاكْتِسَابِ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ مِنَ الْغَيْرِ، وَعَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ أَشْيَاءَ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مِنْهَا أَنَّ «الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ»‏.‏

وَأَنَّ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً؛ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا أَوْ عَلَيْهِ وِزْرُهَا»‏.‏

وَأَنْ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ‏.‏

وَأَنَّهُ «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا»‏.‏

وَفِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏}‏ ‏[‏الطُّور‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وَفُسِّرَ بِأَنَّ الْأَبْنَاءَ يُرْفَعُونَ إِلَى مَنَازِلِ الْآبَاءِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا ذَلِكَ بِأَعْمَالِهِمْ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ؛ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُجْزِئُهُ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ‏.‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»‏.‏

«وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلَيُّهُ»‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ‏.‏‏.‏ قَالَ‏:‏ «فَاقْضِهِ عَنْهَا»‏.‏

وَقَدْ قَالَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُبَرَاءُ وَعُلَمَاءُ، وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا بِجَوَازِ هِبَةِ الْعَمَلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ نَوْعِهَا، وَتَبَيِّنَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ عَلَى الْعُمُومِ؛ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ لَنَا قَاعِدَةً يُرْجَعُ إِلَيْهَا غَيْرَ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَهِيَ قَاعِدَةُ الصَّدَقَةِ عَنِ الْغَيْرِ، وَهَى عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ صَدَقَةً إِذَا قُصِدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ، فَإِذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ عَنِ الرَّجُلِ؛ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنِ الْمُتَصَدَّقِ عَنْهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَهَذِهِ عِبَادَةٌ حَصَلَتْ فِيهَا النِّيَابَةُ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الصَّدَقَةِ فَرْضًا كَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ إِخْرَاجَهَا عَنِ الْغَيْرِ جَائِزٌ وَجَازَ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَالزَّكَاةُ أُخَيَّةُ الصَّلَاةِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ لَنَا قَاعِدَةً أُخْرَى مُتَّفَقًا عَلَيْهَا أَوْ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهَى تَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ لِلدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ؛ فَإِنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُتْلِفَ زَيْدٌ فَيُغَرَّمُ عَمْرٌو، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَمِنْهُ أَيْضًا نِيَابَةُ الْإِمَامِ عَنِ الْمَأْمُومِ فِي الْقِرَاءَةِ وَبَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مِثْلَ الْقِيَامِ، وَالنِّيَابَةُ عَنْهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لِلْغَيْرِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَتَوَجُّهٌ إِلَيْهِ، وَالْغَيْرُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ مَلَائِكَةً عِبَادَتُهُمْ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا وَلِمَنْ فِي الْأَرْضِ عُمُومًا، وَقَدِ اسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبَوَيْهِ حَتَّى نَزَلَ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 113‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي ابْنِ أُبَيٍّ‏:‏ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ حَتَّى نَزَلَ‏:‏ ‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 80‏]‏، وَنَزَلَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وَإِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ؛ فَلَمْ يُنْهَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ كَانَ حَيًّا مِنْهُمْ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»‏.‏

وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالدُّعَاءُ لِلْغَيْرِ مِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ ضَرُورَةٌ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ إِنَّ النِّيَابَةَ فِي الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ غَيْرُ الْعِبَادَاتِ صَحِيحَةٌ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْإِنْسَانِ عَيْنًا، وَكَذَلِكَ الْمَالِيَّةُ، وَأَوَّلُهَا الْجِهَادُ؛ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ الْمُكَلَّفُ بِهِ غَيْرَهُ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ، إِذَا أَذِنَ الْإِمَامُ، وَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ، فَإِذَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي مِثْلِ هَذَا؛ فَلْتُجْزَ فِي بَاقِي الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَشْرُوعٌ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ إِنَّ مَآلَ الْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ أَنْ يُجَازَى عَلَيْهَا، وَقَدْ يُجَازَى الْإِنْسَانُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ، خَيْرًا كَانَ الْجَزَاءُ أَوْ شَرًّا، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ ضَرْبَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الْمَصَائِبُ النَّازِلَةُ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَعِرْضِهِ؛ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ بِاكْتِسَابٍ كُفِّرَ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَأُخِذَ بِهَا مِنْ أَجْرِ غَيْرِهِ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ وَزِرَهُ، وَ ‏[‏لَوْ‏]‏ لَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجِدَ أَلَمَهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُفْلِسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ، فَهِيَ كَفَّارَاتٌ فَقَطْ، أَوْ كَفَّارَاتٌ وَأُجُورٌ، وَكَمَا جَاءَ فِيمَنْ غَرَسَ غَرْسًا أَوْ زَرَعَ زَرْعًا يَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَنَّهُ لَهُ أَجْرٌ، وَفِيمَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَكَلَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، أَوْ شَرِبَ فِي نَهْرٍ، أَوِ اسْتَنَّ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ؛ فَهِيَ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَالضَّرْبُ الثَّانِي‏:‏ النِّيَّاتُ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْأَعْمَالَ كَمَا جَاءَ‏:‏ إِنَّ الْمَرْءَ يُكْتَبُ لَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ أَوِ الْجِهَادُ إِذَا حَبَسَهُ عَنْ عُذْرٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ؛ حَتَّى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمُتَمَنِّي أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يَعْمَلُ بِهِ مِثْلَ عَمَلِ فُلَانٍ‏:‏ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَفِي الْآخَر‏:‏ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ‏.‏

وَحَدِيثُ‏:‏ «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا؛ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»‏.‏

«وَالْمُسْلِمَانِ يَلْتَقِيَانِ بِسَيْفَيْهِمَا» الْحَدِيثَ‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدِّ الْمُكَلَّفِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالْعَامِلِ نَفْسِهِ فِي الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ، فَإِذَا كَانَ كَالْعَامِلِ وَلَيْسَ بِعَامِلٍ وَلَا عَمَلَ عَنْهُ غَيْرُهُ؛ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَالْعَامِلِ إِذَا اسْتَنَابَ غَيْرَهُ عَلَى الْعَمَلِ‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ بِصِحَّةِ النِّيَابَةِ؛ فَإِنَّ لِلنَّظَرِ فِيهَا مُتَّسَعًا‏.‏

أَمَّا قَاعِدَةُ الصَّدَقَةِ عَنِ الْغَيْرِ وَإِنْ عَدَدْنَاهَا عِبَادَةً؛ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي نِيَابَةٍ فِي عِبَادَةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَجُّهٌ إِلَيْهِ، وَالصَّدَقَةُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَا كَلَامَ فِيهَا‏.‏

وَأَمَّا قَاعِدَةُ الدُّعَاءِ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّعَاءِ نِيَابَةٌ لِأَنَّهُ شَفَاعَةٌ لِلْغَيْرِ؛ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ‏.‏

وَأَمَّا قَاعِدَةُ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا مَصَالِحٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ نِيَّةٌ، بَلِ الْمَنُوبُ عَنْهُ إِنْ نَوَى الْقُرْبَةَ فِيمَا لَهُ سَبَبٌ فِيهِ؛ فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ مِنْهُ صَدَرَتْ لَا مِنَ النَّائِبِ، وَالنِّيَابَةُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّفْرِقَةِ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ التَّقَرُّبِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ، وَالْجِهَادِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَعْدُودَةِ فِي الْعِبَادَاتِ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الَّتِي هِيَ مَصَالِحُ الدُّنْيَا، لَكِنْ لَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا الْأَجْرُ الْأُخْرَوِيُّ إِلَّا إِذَا قَصَدَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ، فَإِنْ قَصَدَ الدُّنْيَا، فَذَلِكَ حَظُّهُ مَعَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْجِهَادِيَّةَ قَائِمَةٌ؛ كَقَاعِدَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ شُعْبَةٌ مِنْهَا، عَلَى أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ كَرِهَ النِّيَابَةَ فِي الْجِهَادِ بِالْجُعْلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْهَلَكَةِ فِي عَرْضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، وَلَوْ فُرِضَ هُنَا قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِالْعَمَلِ؛ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ نِيَابَةٌ أَصْلًا؛ فَهَذَا الْأَصْلُ لَا اعْتِرَاضَ بِهِ أَيْضًا‏.‏

وَأَمَّا قَاعِدَةُ الْمَصَائِبِ النَّازِلَةِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ فِي التَّعَبُّدِ، وَإِنَّمَا الْأَجْرُ وَالْكَفَّارَةُ فِي مُقَابَلَةِ مَا نِيلَ مِنْهُ لَا لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ، وَكَوْنُ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ تُعْطَى الْمَظْلُومَ، أَوْ سَيِّئَاتُ الْمَظْلُومِ تُطْرَحُ عَلَى الظَّالِمِ؛ فَمِنْ بَابِ الْغَرَامَاتِ؛ فَهِيَ مُعَاوَضَاتٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْوَاضَ الْأُخْرَوِيَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأُجُورِ وَالْأَوْزَارِ؛ إِذْ لَا دِينَارَ هُنَاكَ وَلَا دِرْهَمَ، وَقَدْ فَاتَ الْقَضَاءُ فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَمَسْأَلَةُ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ فِي الْمَالِ، وَمِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ بِهِ إِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِ مَالِكِهِ‏.‏

وَمَسْأَلَةُ الْعَاجِزِ عَنِ الْأَعْمَالِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَامِلِ بِلَا نِيَابَةٍ؛ إِذْ عُدَّ فِي الْجَزَاءِ بِسَبَبِ نِيَّتِهِ كَمَنْ عَمِلَ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا تَجْرِي فِي الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ عِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهَا لَعَمِلَهَا إِنَّ لَهُ أَجْرَ مَنْ عَمِلَهَا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ إِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ مِمَّا يُقْضَى، كَمَا أَنَّهُ لَوْ تَمَنَّى أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا أَوْ يَسْرِقَ أَوْ يَفْعَلَ شَرًّا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ؛ كَانَ لَهُ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ، وَلَا يُعَدُّ فِي الدُّنْيَا كَمَنْ عَمِلَ، حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْفَاعِلِ حَقِيقَةً؛ فَلَيْسَتْ مِنَ النِّيَابَةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ فُرِضَتِ النِّيَابَةُ؛ فَالنَّائِبُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ، فَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ، فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ لَا تَنْقُضُ مَا تَأَصَّلَ‏.‏

وَنَرْجِعُ إِلَى مَا ذُكِرَ أَوَّلَ السُّؤَالِ؛ فَإِنَّهُ عُمْدَةُ مَنْ خَالَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ‏.‏

فَحَدِيثُ تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ظَاهِرُ حَمْلِهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَحْرِيضِ الْمَرِيضِ- إِذَا ظَنَّ الْمَوْتَ- أَهْلَهُ عَلَى الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ سَنَّ سُنَّةً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏، وَحَدِيثُ ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ انْقِطَاعِ الْعَمَلِ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى عَمَلِ الْمَأْجُورِ أَوِ الْمَوْزُورِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ أَوَّلًا، فَعَلَى جَرَيَانِ سَبَبِهِ تَجْرِي الْمُسَبِّبَاتُ، وَالْكِفْلُ الرَّاجِعُ إِلَى الْمُتَسَبِّبِ ‏[‏الْأَوَّلِ‏]‏ نَاشِئٌ عَنْ عَمَلِهِ، لَا عَنْ عَمَلِ الْمُتَسَبِّبِ الثَّانِي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الطُّور‏:‏ 21‏]‏؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ كَسْبٌ مَنْ كَسْبِهِ، فَمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ فَكَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَبِ، وَبِذَلِكَ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏}‏ ‏[‏الْمَسَد‏:‏ 2‏]‏ أَنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ؛ فَلَا غَرَوَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلَتِهِ وَتَقَرَّ عَيْنُهُ بِهِ، كَمَا تَقَرُّ عَيْنُهُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الطُّور‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وَإِنَّمَا يَشْكُلُ مِنْ كُلِّ مَا أَوْرَدَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ؛ فَإِنَّهَا كَالنَّصِّ فِي مُعَارَضَةِ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا، وَبِسَبَبِهَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا نَصَّ فِيهَا خَاصَّةً- وَذَلِكَ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَأَمَّا النَّذْرُ؛ فَإِنَّمَا كَانَ صِيَامًا فَيَرْجِعُ إِلَى الصِّيَامِ‏.‏

وَالَّذِي يُجَابُ بِهِ فِيهَا أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا مُضْطَرِبَةٌ، نَبَّهَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى اضْطِرَابِهَا؛ فَانْظُرْهُ فِي الْإِكْمَالِ، وَهُوَ مِمَّا يَضْعُفُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا إِذَا لَمْ تُعَارِضْ أَصْلًا قَطْعِيًّا؛ فَكَيْفَ إِذَا عَارَضَتْهُ‏؟‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ قَالَ فِي حَدِيث‏:‏ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يُرْوَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَرَكَتْهُ فَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ وَأَفْتَتْ بِخِلَافِهِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ الَّتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَرْوِيهِ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ خَالَفَهُ وَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ النَّاسَ عَلَى أَقْوَالٍ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث‏:‏ مِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ مَا صَحَّ مِنْهَا بِإِطْلَاقٍ؛ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ مَنْ قَالَ بِبَعْضِهَا، فَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ دُونَ الصِّيَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ بِإِطْلَاقٍ، كَمَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ، فَأَنْتَ تَرَى بَعْضَهُمْ لَمْ يَأْخُذْ بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ صَحَّ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الْأَخْذِ بِهَا فِي النَّظَرِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا فِي الْحَجِّ لِمَكَانِ رَكْعَتِي الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ، وَيَجُوزُ فِي التَّبَعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ؛ كَبَيْعِ الشَّجَرَةِ بِثَمَرَةٍ قَدْ أُبِّرَتْ، وَبَيْعِ الْعَبْدِ بِمَالِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْمَنْعِ فِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الْأَحَادِيثَ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ تَرْكَ اعْتِبَارِهَا مُطْلَقًا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ سَبِيلُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ سُئِلُوا عَنِ الْقَضَاءِ فِي الْحَجِّ وَالصَّوْمِ، فَأَنْفَذُوا مَا سُئِلُوا فِيهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَيْرًا، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَازَ عَنِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ‏:‏ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهُ؛ فَهُوَ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ ‏[‏النَّجْم‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ خَاصَّةً بِمَنْ كَانَ لَهُ تَسَبُّبٌ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، كَمَا إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ، أَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ سَعْيٌ حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ ‏[‏النَّجْم‏:‏ 39‏]‏، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ صَامَ عَنْهُ وَلَيُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَهُوَ الصَّدَقَةُ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ تَارَةً يَكُونُ بِمِثْلِ الْمَقْضِيِّ، وَتَارَةً بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ الْإِطْعَامُ، وَفِي الْحَجِّ النَّفَقَةُ عَمَّنْ يَحَجُّ عَنْهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَالسَّادِسُ‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى قِلَّتِهَا مُعَارِضَةٌ لِأَصْلٍ ثَابِتٍ فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ، وَلَمْ تَبْلُغْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ وَلَا الْمَعْنَوِيِّ؛ فَلَا يُعَارِضُ الظَّنُّ الْقَطْعَ، كَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُعَارِضُهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ أَصْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ نُكْتَةُ الْمَوْضِعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِيهِ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَجْوِبَةِ تَضْعِيفٌ لِمُقْتَضَى التَّمَسُّكِ بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ وُضِّحَ مَأْخَذُ هَذَا الْأَصْلِ الْحَسَنِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في مَسْأَلَةِ هِبَةِ الثَّوَابِ‏]‏

وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي مَسْأَلَةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ هِبَةِ الثَّوَابِ، وَفِيهَا نَظَرٌ‏.‏

فَلِلْمَانِعِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْهِبَةَ إِنَّمَا صَحَّتْ فِي الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْمَالُ، وَأَمَّا فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ؛ فَلَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا دَلِيلٌ؛ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِهَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ الشَّارِعِ كَالْمُسَبِّبَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَقَدْ نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 13‏]‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 14‏]‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 14‏]‏‏.‏

‏{‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَهُوَ كَثِيرٌ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا كَالتَّوَابِعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَبَوِّعَاتِ؛ كَاسْتِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ مَعَ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَاسْتِبَاحَةِ الْبِضْعِ مَعَ عَقْدِ النِّكَاحِ؛ فَلَا خِيَرَةَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَفَضُّلٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَامِلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ اقْتَضَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَيْسَ لِلْعَامِلِ فِيهِ نَظَرٌ وَلَا اخْتِيَارٌ، وَلَا فِي يَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِذًا لَا يَصِحُّ فِيهِ تَصَرُّفٌ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَلَيْسَ فِي الْجَزَاءِ ذَلِكَ؛ فَلَا يَصِحُّ لِلْعَامِلِ تَصَرُّفٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، كَمَا لَا يَصِحُّ لِغَيْرِهِ‏.‏

وَلِلْمُجِيزِ أَنْ يَسْتَدِلَّ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ أَدِلَّتَهُ مِنَ الشَّرْعِ هِيَ الْأَدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ الْهِبَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا؛ إِمَّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ عُمُومِهَا أَوْ إِطْلَاقِهَا، وَإِمَّا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِ وَالثَّوَابِ عِوَضٌ مُقَدَّرٌ، فَكَمَا جَازَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّدَقَةِ عَنِ الْغَيْرِ أَنَّهَا هِبَةُ الثَّوَابِ، لَا يَصِحُّ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ صَحَّ وُجُودُ الدَّلِيلِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمَنْعِ وَجْهٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ كَوْنَ الْجَزَاءِ مَعَ الْأَعْمَالِ كَالْمُسَبِّبَاتِ مَعَ الْأَسْبَابِ، وَكَالتَّوَابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعَاتِ، يَقْضِي بِصِحَّةِ الْمِلْكِ لِهَذَا الْعَامِلِ؛ كَمَا يَصِحُّ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ صَحَّ التَّصَرُّفُ بِالْهِبَةِ‏.‏

لَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الثَّوَابَ لَا يُمْلَكُ كَمَا يُمْلَكُ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَقَطْ، وَهُوَ النَّعِيمُ الْحَاصِلُ هُنَالِكَ وَالْآنَ لَمْ يُمْلَكْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِمَّا أَنْ يُمْلَكَ هُنَا مِنْهُ شَيْئًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 97‏]‏؛ فَذَلِكَ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ أَنَّهُ يَنَالُ فِي الدُّنْيَا طِيبَ عَيْشٍ مِنْ غَيْرِ كَدَرٍ مُؤَثِّرٍ فِي طِيبِ عَيْشِهِ، كَمَا يَنَالُ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا النَّعِيمَ الدَّائِمَ، فَلَيْسَ لَهُ أَمْرٌ يَمْلِكُهُ الْآنَ حَتَّى تَصِحَّ هِبَتُهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَصِحُّ حَوْزُهَا وَمِلْكُهَا الْآنَ‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ هُوَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْجَزَاءِ؛ فَقَدْ كُتِبَ لَهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَقَرَّ لَهُ مِلْكًا بِالتَّمْلِيكِ، وَإِنْ لَمْ يَحُزْهُ الْآنَ، وَلَا يَلْزَمْ مِنَ الْمِلْكِ الْحَوْزِ، وَإِذَا صَحَّ مِثْلُ هَذَا فِي الْمَالِ، وَصَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا؛ صَحَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ‏:‏ مَا وَرِثْتُهُ مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ وَهَبْتُهُ لِفُلَانٍ، وَيَقُولُ‏:‏ إِنِ اشْتَرَى لِي وَكِيلِي عَبْدًا، فَهُوَ حُرٌّ أَوْ هِبَةٌ لِأَخِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فِي حَوْزِهِ وَكَمَا يَصِحُّ هَذَا التَّصَرُّفُ فِيمَا بِيَدِ الْوَكِيلِ فِعْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُوَكِّلُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحُوزَهُ مِنْ يَدِ الْوَكِيلِ؛ يَصِحُّ أَيْضًا التَّصَرُّفُ بِمِثْلِهِ فِيمَا هُوَ بِيَدِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ؛ فَقَدْ وَضَحَ إِذَا مَغْزَى النَّظَرِ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ‏:‏ ‏[‏دَوَامُ الْمُكَلَّفِ عَلَى الْأَعْمَالِ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ‏]‏

مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِي الْأَعْمَالِ دَوَامُ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَاضِحٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ ‏[‏الْمَعَارِج‏:‏ 22- 23‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَإِقَامُ الصَّلَاةِ بِمَعْنَى الدَّوَامِ عَلَيْهَا بِهَذَا فُسِّرَتْ الْإِقَامَةُ حَيْثُ ذُكِرَتْ مُضَافَةً إِلَى الصَّلَاةِ، وَجَاءَ هَذَا كُلُّهُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَجَاءَ الْأَمْرُ بِهِ صَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 83‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا»‏.‏

وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي تَوْقِيتِ الشَّارِعِ وَظَائِفُ الْعِبَادَاتِ؛ مِنْ مَفْرُوضَاتٍ وَمَسْنُونَاتٍ، وَمُسْتَحَبَّاتٍ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةِ الْأَسْبَابِ ظَاهِرَةٍ وَلِغَيْرِ أَسْبَابٍ؛ مَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الْقَطْعِ بِقَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى إِدَامَةِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الَّذِينَ تَرَهَّبُوا‏:‏ ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ ‏[‏الْحَدِيد‏:‏ 27‏]‏، إِنَّ عَدَمَ مُرَاعَاتِهِمْ لَهَا هُوَ تَرْكُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا وَالِاسْتِمْرَارِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في حُكْمِ إِلْزَامِ الصُّوفِيَّةِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْأَوْرَادِ وَغَيْرِهَا‏]‏

فَمِنْ هُنَا يُؤْخَذُ حُكْمُ مَا أَلْزَمَهُ الصُّوفِيَّةُ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْأَوْرَادِ فِي الْأَوْقَاتِ، وَأُمِرُوا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِإِطْلَاقٍ، لَكِنَّهُمْ قَامُوا بِأُمُورٍ لَا يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُمْ؛ فَالْمُكَلَّفُ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي عَمَلٍ غَيْرِ وَاجِبٍ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى سُهُولَةِ الدُّخُولِ فِيهِ ابْتِدَاءً حَتَّى يَنْظُرَ فِي مَآلِهِ فِيهِ، وَهَلْ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ طُولَ عُمْرِهِ أَمْ لَا‏؟‏ فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مِنْ جِهَةِ شِدَّةِ التَّكْلِيفِ فِي نَفْسِهِ، بِكَثْرَتِهِ أَوْ ثِقَلِهِ فِي نَفْسِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مِنْ جِهَةِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ خَفِيفًا‏.‏

وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ الصَّلَاةُ؛ فَإِنَّهَا مِنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهَا خَفِيفَةٌ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا مَعْنَى الْمُدَاوِمَةِ ثَقُلَتْ، وَالشَّاهِدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 45‏]‏؛ فَجَعَلَهَا كَبِيرَةً حَتَّى قَرَنَ بِهَا الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ، وَاسْتَثْنِي الْخَاشِعِينَ فَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهِمْ كَبِيرَةً؛ لِأَجْلِ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ سَائِقٌ، وَالرَّجَاءِ الَّذِي هُوَ حَادٍ، وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 46‏]‏، فَإِنَّ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ يُسَهِّلَانِ الصَّعْبَ، فَإِنَّ الْخَائِفَ مِنَ الْأَسَدِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ تَعَبُّ الْفِرَارِ، وَالرَّاجِي لِنَيْلِ مَرْغُوبِهِ يَقْصُرُ عَلَيْهِ الطَّوِيلُ مِنَ الْمَسَافَةِ، وَلِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي الْفِعْلِ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِمْرَارِ وُضِعَتِ التَّكَالِيفُ عَلَى التَّوَسُّطِ وَأُسْقِطَ الْحَرَجُ، وَنُهِيَ عَنِ التَّشْدِيدِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ؛ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى»، وَقَالَ‏:‏ «مَنْ يُشَادُّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ»، وَهَذَا يَشْمَلُ التَّشْدِيدَ بِالدَّوَامِ، كَمَا يَشْمَلُ التَّشْدِيدَ بِأَنْفَسِ الْأَعْمَالِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ‏:‏ ‏[‏الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِينَ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ لَا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ‏]‏

الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِينَ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُخْتَصُّ بِالْخِطَابِ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا الطَّلَبِيَّةِ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا يُحَاشَى مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِهَا مُكَلَّفٌ الْبَتَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ- مَعَ أَنَّهُ وَاضِحٌ- أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ النُّصُوصُ الْمُتَضَافِرَةُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏سَبَأٍ‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ»‏.‏

وَأَشْبَاهِ هَذِهِ النُّصُوصِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَةَ عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ مُخْتَصًّا بِمَا لَمْ يُخَصَّ بِهِ غَيْرُهُ؛ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا لِلنَّاسِ جَمِيعًا؛ إِذْ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ أَنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ بِهِ؛ فَلَا يَكُونُ مُرْسَلًا بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالِهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ؛ فَظَاهِرُ الْأَمْرِ فِيهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ؛ فَالْعِبَادُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ مِرْآةٌ، فَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ بِإِطْلَاقٍ، لَكِنَّهَا كَذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ أَحْكَامَهَا عَلَى الْعُمُومِ لَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا مَا كَانَ اخْتِصَاصًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ‏}‏، إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ بِهِ بِالدَّلِيلِ، وَيَرْجِعُ إِلَى هَذَا مَا خَصَّ هُوَ بِهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ؛ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ؛ كَاخْتِصَاصِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ بِالتَّضْحِيَةِ بِالْعَنَاقِ الْجَذَعَةِ، وَخَصَّهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِه‏:‏ «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»؛ فَهَذَا لَا نَظَرَ فِيهِ، إِذْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّصُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فِي مَوَاضِعِهِ إِعْلَامًا بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ خَارِجَةٌ عَنْ قَانُونِ الِاخْتِصَاصِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِذَلِكَ صَيَّرُوا أَفْعَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً لِلْجَمِيعِ فِي أَمْثَالِهَا، وَحَاوَلُوا فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ وَلَيْسَ لَهَا صِيَغٌ عَامَّةٌ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْعُمُومِ؛ إِمَّا بِالْقِيَاسِ، أَوْ بِالرَّدِّ إِلَى الصِّيغَةِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَاوَلَاتِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي النَّازِلَةِ الْأَوْلَى مُخْتَصًّا بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 37‏]‏؛ فَقَرَّرَ الْحُكْمَ فِي مَخْصُوصٍ لِيَكُونَ عَامًا فِي النَّاسِ، وَتَقَرُّرُ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدٍ، لِوُضُوحِهِ عِنْدَ مَنْ زَاوَلَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ أَنَّهُ لَوْ جَازَ خِطَابُ الْبَعْضِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَخُصَّ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ بَعْضَ النَّاسِ؛ لَجَازَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُخَاطَبُ بِهَا بَعْضُ مَنْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْلِيفِ بِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْأَمْرِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ مِثْلُهُ، وَلَا أَعَنِي بِذَلِكَ مَا كَانَ نَحْوَ الْوِلَايَاتِ وَأَشْبَاهِهَا؛ مِنَ الْقَضَاءِ، وَالْإِمَامَةِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْفُتْيَا فِي النَّوَازِلِ، وَالْعِرَافَةِ، وَالنِّقَابَةِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالتَّعْلِيمِ لِلْعُلُومِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّظَرِ فِي شَرْطِ التَّكْلِيفِ بِهَا، وَجَامِعُ الشُّرُوطِ فِي التَّكْلِيفِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهِ؛ فَالْقَادِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْوَظَائِفِ مُكَلَّفٌ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا؛ فَالتَّكْلِيفُ عَامٌ لَا خَاصٌّ، ‏[‏وَبِسُقُوطِهِ أَيْضًا عَامٌ لَا خَاصٌّ‏]‏ مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ أَوْ عَدَمِهَا لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي كُلِّ مَا كَانَ مُوهِمًا لِلْخِطَابِ الْخَاصِّ؛ كَمَرَاتِبِ الْإِيغَالِ فِي الْأَعْمَالِ، وَمَرَاتِبِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الدِّينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في فَوَائِدِ الْمَسْأَلَةِ‏]‏

وَهَذَا الْأَصْلُ يَتَضَمَّنُ فَوَائِدَ عَظِيمَةً‏:‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ يُعْطَى قُوَّةً عَظِيمَةً فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِبَعْضِ النَّاسِ وَالْحُكْمِ الْخَاصِّ كَانَ وَاقِعًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا، وَلَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِدَلِيلٍ عَامٍ يَعُمُّ أَمْثَالَهَا مِنَ الْوَقَائِعِ؛ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ- إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخُصُوصُ الْوَاقِعُ غَيْرَ مُرَادٍ، وَلَيْسَ فِي الْقَضِيَّةِ لَفْظٌ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ فِي إِلْحَاقِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ بِالْمَذْكُورِ، فَأَرْشَدَنَا ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ إِذْ ذَاكَ أَنْ يُلْحَقَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ، وَتَأَيَّدَ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَانْشَرَحَ الصَّدْرُ لِقَبُولِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا يُبْسَطُ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَمْ يَتَحَقَّقُ بِفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ يَظُنُّ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ جَرَتْ عَلَى طَرِيقَةٍ غَيْرِ طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهُمُ امْتَازُوا بِأَحْكَامٍ غَيْرِ الْأَحْكَامِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُرَشِّحُونَ ذَلِكَ بِمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَجِبُ فِي زَكَاةِ كَذَا؛ فَقَالَ‏:‏ عَلَى مَذْهَبِنَا أَوْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ‏؟‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا؛ فَالْكُلُّ لِلَّهِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِكُمْ، فَكَذَا وَكَذَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ افْتَرَقَ النَّاسُ فِيهِمْ، فَمِنْ مُصَدِّقٍ بِهَذَا الظَّاهِرِ، مُصَرِّحٍ بِأَنَّ الصُّوفِيَّةَ اخْتُصِّتْ بِشَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ هِيَ أَعْلَى مِمَّا بُثَّ فِي الْجُمْهُورِ، وَمِنْ مُكَذِّبٍ وَمُشَنِّعٍ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ وَيَنْسِبُهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَالْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي طَرَفٍ وَكُلُّ مُكَلَّفٍ دَاخِلٌ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْخَلْقِ، كَمَا تَبَيَّنَ آنِفًا، وَلَكِنَّ رُوحَ الْمَسْأَلَةِ الْفِقْهُ فِي الشَّرِيعَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ أُبِيحُ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَمْ تُبَحْ لِغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَقَّوْا عَنْ رُتْبَةِ الْعَوَامِّ الْمُنْهَمِكِينَ فِي الشَّهَوَاتِ إِلَى رُتْبَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ سُلِبُوا الِاتِّصَافَ بِطَلَبِهَا وَالْمَيْلِ إِلَيْهَا؛ فَاسْتَجَازُوا لِمَنِ ارْتَسَمَ فِي طَرِيقَتِهِمْ إِبَاحَةَ بَعْضِ الْمَمْنُوعَاتِ فِي الشَّرْعِ بِنَاءً عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ عَنِ الْجُمْهُورِ؛ فَقَدْ ذُكِرَ نَحْوُ هَذَا فِي سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَإِنْ قُلْنَا بِالنَّهْيِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَنِ اسْتَبَاحَ شُرْبَ الْخَمْرِ بِنَاءً عَلَى قَصْدِ التَّدَاوِي بِهَا، وَاسْتِجْلَابِ النَّشَاطِ فِي الطَّاعَةِ، لَا عَلَى قَصْدِ التَّلَهِّي، وَهَذَا بَابٌ فَتَحَتْهُ الزَّنَادِقَةُ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ إِنَّ التَّكْلِيفَ خَاصٌّ بِالْعَوَامِّ سَاقِطٌ عَنِ الْخَوَاصِّ، وَأَصْلُ هَذَا كُلُّهُ إِهْمَالُ النَّظَرِ فِي الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَلْيُعْتَنَ بِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ‏:‏ ‏[‏كُلُّ مَزِيَّةٍ أُعْطِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أُعْطِيَتْ أُمَّتُهُ بَعْضًا مِنْهَا‏]‏

كَمَا أَنَّ الْأَحْكَامَ وَالتَّكْلِيفَاتِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ، كَذَلِكَ الْمَزَايَا وَالْمَنَاقِبِ؛ فَمَا مِنْ مَزِيَّةٍ أُعْطِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى مَا وَقَعَ اسْتِثْنَاؤُهُ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَتْ أُمَّتُهُ مِنْهَا أُنْمُوذَجًا؛ فَهِيَ عَامَّةٌ كَعُمُومِ التَّكَالِيفِ، بَلْ قَدْ زَعَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ جَرَتْ أَنَّهُ إِذْ أَعْطَى اللَّهُ نَبِيًّا شَيْئًا أَعْطَى أُمَّتَهُ مِنْهُ، وَأَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةً‏.‏

وَمَا قَالَهُ يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ‏.‏

أَمَّا أَوَّلًا؛ فَالْوِرَاثَةُ الْعَامَّةُ فِي الِاسْتِخْلَافِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَتَعَبَّدَ الْأُمَّةُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَمَا حُدَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِنْبَاطٍ، وَكَانَتْ تَكْفِي الْعُمُومَاتُ وَالْإِطْلَاقُ حَسْبَمَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَى الْعِبَادِ بِالْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي خَصَّ بِهَا نَبِيَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ إِذْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

وَهَذَا وَاضِحٌ؛ فَلَا نُطَوِّلُ بِهِ‏.‏

وَأَمَا ثَانِيًا؛ فَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، نَقْتَصِرُ مِنْهَا عَلَى ثَلَاثِينَ وَجْهًا‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَقَالَ تَعَالَى فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْإِعْطَاءُ إِلَى الْإِرْضَاءِ، قَالَ تَعَالَى فِي النَّبِيّ‏:‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى‏}‏ ‏[‏الضُّحَى‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 119‏]‏‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ غُفْرَانُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْفَتْح‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَفِي الْأُمَّةِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ‏:‏ هَنِيئًا مَرِيئًا؛ فَمَا لَنَا‏؟‏ فَنَزَلَ‏:‏ ‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْفَتْح‏:‏ 5‏]‏؛ فَعَمَّ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ‏.‏

وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى إِتْمَامُ النِّعْمَةِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏الْفَتْح‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ الْوَحْيُ وَهُوَ النُّبُوَّةُ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 163‏]‏، وَسَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدٍ، وَفِي الْأُمَّة‏:‏ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»‏.‏

وَالسَّادِسُ‏:‏ نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ؛ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 144‏]‏؛ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحِبُّ أَنْ يُرَدَّ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا‏:‏ ‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 51‏]‏؛ لَمَّا كَانَ قَدْ حَبَّبَ إِلَيْهِ النِّسَاءَ فَلَمْ يُوقَفْ فِيهِنَّ عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ‏.‏

وَفِي الْأُمَّةِ قَالَ عُمَرُ‏:‏ «وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ‏.‏‏.‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 125‏]‏، وَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ‏.‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُ نِسَائِهِ؛ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ فَقُلْتُ‏:‏ إِنِ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ‏.‏‏.‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّحْرِيم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَحَدِيثُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ زَوْجِي ظَاهَرَ مِنِّي، وَقَدْ طَالَتْ صُحْبَتِي مَعَهُ، وَقَدْ وَلَدْتُ لَهُ أَوْلَادًا؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ قَدْ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ‏.‏‏.‏ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ؛ فَقَالَتْ‏:‏ إِلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إِلَيْهِ‏.‏‏.‏ ثُمَّ عَادَتْ، فَأَجَابَهَا، ثُمَّ ذَهَبَتْ لِتُعِيدَ الثَّالِثَةَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمُجَادَلَة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وَمِنْ هَذَا كَثِيرٌ لِمَنْ تَتَبَّعَ‏.‏

وَنَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنَ الْإِفْكِ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَتْ؛ إِذْ قَالَتْ‏:‏ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا‏.‏

وَقَالَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ‏:‏ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلْيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ‏.‏‏.‏ فَنَزَلَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النُّور‏:‏ 6‏]‏، وَهَذَا خَاصٌّ بِزَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ بِانْقِطَاعِهِ‏.‏

وَالسَّابِعُ‏:‏ الشَّفَاعَةُ؛ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وَقَدْ ثَبَتَتْ شَفَاعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ فِي أُوَيْسٍ‏:‏ «يُشَفَّعُ فِي مِثْلِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ»‏.‏

«أَئِمَّتُكُمْ شُفَعَاؤُكُمْ»، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَالثَّامِنُ‏:‏ شَرْحُ الصَّدْرِ؛ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الشَّرْح‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وَالتَّاسِعُ‏:‏ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحِبَّةِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ؛ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَذَاكَرُونَ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَجَبًا إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا، وَقَالَ آخَرُ‏:‏ مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى، كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ‏:‏ فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحِهِ‏.‏‏.‏ وَقَالَ آخَرُ‏:‏ آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ‏.‏‏.‏ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ‏:‏ قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَنَا أَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَلَا فَخْرَ»‏.‏

وَفِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وَجَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أُمَّتَهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْعَاشِرُ‏.‏

وَأَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 110‏]‏‏.‏

وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ‏.‏

وَالثَّانِي عَشَرَ‏:‏ أَنَّهُ جُعِلَ شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِهِ، اخْتُصَّ بِذَلِكَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ‏.‏

وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيم‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وَالثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ مُعْجِزَاتٌ وَكَرَامَاتٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَقِّ الْأُمَّةِ كَرَامَاتٌ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ‏:‏ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَحَدَّى الْوَلِيُّ بِالْكَرَامَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌ أَمْ لَا‏؟‏ وَهَذَا الْأَصْلُ شَاهِدٌ لَهُ، وَسَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ‏.‏

وَالرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ الْوَصْفُ بِالْحَمْدِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ فَفِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ ‏[‏الصَّفّ‏:‏ 6‏]‏، وَسُمِّيَتْ أُمَّتُهُ الْحَمَّادِينَ‏.‏

وَالْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ الْعِلْمُ مَعَ الْأُمِّيَّةِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الْجُمُعَة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ»‏.‏

وَالسَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ مُنَاجَاةُ الْمَلَائِكَةِ؛ فَفِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُهُ الْمَلَكُ؛ كَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَنُقِلَ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ هَذَا‏.‏

وَالسَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ الْعَفْوُ قَبْلَ السُّؤَالِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وَفِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 152‏]‏‏.‏

وَالثَّامِنَ عَشَرَ‏:‏ رَفْعُ الذِّكْرِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشَّرْح‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ قَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فِي عَقْدِ الْأَيْمَانِ، وَفِي كَلِمَةِ الْأَذَانِ؛ فَصَارَ ذِكْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرْفُوعًا مُنَوَّهًا بِهِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَّةِ وَمَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ كَثِيرٌ‏.‏

وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَمَةِ أَحْمَدَ» لِمَا وُجِدَ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَالتَّاسِعَ عَشَرَ‏:‏ أَنَّ مُعَادَاتَهُمْ مُعَادَاةٌ لِلَّهِ، وَمُوَالَاتَهُمْ مُوَالَاةُ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 57‏]‏ ‏[‏هِيَ عِنْدَ طَائِفَةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «مَنْ آذَانِي؛ فَقَدْ آذَى اللَّهَ»‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا؛ فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارِبَةِ»‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 80‏]‏‏.‏

وَمَفْهُومُهُ مَنْ لَمْ يُطِعِ الرَّسُولَ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ‏.‏

وَتَمَامُ الْعِشْرِينَ‏:‏ الِاجْتِبَاءُ؛ فَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وَفِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُصْطَفًى مِنَ الْخَلْقِ‏.‏

وَقَالَ فِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَالْحَادِي وَالْعِشْرُونَ‏:‏ التَّسْلِيمُ مِنَ اللَّهِ؛ فَفِي أَحَادِيثِ إِقْرَاءِ السَّلَامِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى‏}‏ ‏[‏النَّمْل‏:‏ 59‏]‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وَقَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَدِيجَةَ‏:‏ «اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي»‏.‏

وَالثَّانِي وَالْعِشْرُونَ‏:‏ التَّثْبِيتُ عِنْدَ تَوَقُّعِ التَّفَلُّتِ الْبَشَرِيِّ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وَفِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الْعَطَاءُ مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الْقَلَم‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التِّين‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَالرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏الْقِيَامَة‏:‏ 17- 19‏]‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏الْقِيَامَة‏:‏ 19‏]‏؛ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ عَلَى لِسَانِكَ‏.‏

وَفِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏ ‏[‏الْقَمَر‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَالْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ جُعِلَ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ؛ إِذْ يُقَالُ فِي التَّشَهُّد‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ‏.‏

وَالسَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ أَنَّهُ سَمَّى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجُمْلَةٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَالرَّءُوفِ الرَّحِيمِ، وَلِلْأُمَّةِ نَحْوَ الْمُؤْمِنِ وَالْخَبِيرِ وَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ‏.‏

وَالسَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 59‏]‏، وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي؛ فَقَدْ أَطَاعَنِي»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏.‏

وَالثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الْخِطَابُ الْوَارِدُ مَوْرِدِ الشَّفَقَةِ وَالْحَنَانِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 1- 2‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الطُّور‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وَفِي الْأُمَّة‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 28‏]‏‏.‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الْعِصْمَةُ مِنَ الضَّلَالِ بَعْدَ الْهُدَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْحِفْظِ الْعَامَّةِ؛ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏

وَجَاءَ فِي الْأُمَّة‏:‏ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ»‏.‏

وَجَاءَ‏:‏ «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ»‏.‏

وَفِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 83‏]‏، تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِه‏:‏ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ»‏.‏

وَفِي قَوْلِه‏:‏ «وَإِنَّى وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا»‏.‏

وَتَمَامُ الثَّلَاثِينَ‏:‏ إِمَامَةُ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّ بِالْأَنْبِيَاءِ قَالَ‏:‏ «وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَان‏:‏ «إِنَّ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهَا، وَإِنَّهُ يُصَلِّي مُؤْتَمًّا بِإِمَامِهَا»‏.‏

وَمَنْ تَتَبَّعَ الشَّرِيعَةَ وَجَدَ مِنْ هَذَا كَثِيرًا، ‏[‏مَجْمُوعُهُ‏]‏ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمَّتَهُ تَقْتَبِسُ مِنْهُ خَيْرَاتٍ وَبَرَكَاتٍ، وَتَرِثُ أَوْصَافًا وَأَحْوَالًا مَوْهُوبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُكْتَسَبَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَا يَنْبَنِي عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوَاعِدَ‏]‏

وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّ جَمِيعَ مَا أُعْطِيَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْمَزَايَا وَالْكَرَامَاتِ، وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْيِيدَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ إِنَّمَا هِيَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ مِشْكَاةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ عَلَى مِقْدَارِ الِاتِّبَاعِ؛ فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهُ حَصَلَ عَلَى خَيْرٍ بِدُونِ وَسَاطَةِ نُبُوَّتِهِ، كَيْفَ وَهُوَ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ الَّذِي يَسْتَضِئُ بِهِ الْجَمِيعُ، وَالْعَلَمُ الْأَعْلَى الَّذِي بِهِ يُهْتَدَى فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ‏.‏

وَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ‏:‏ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَى أَيْدِي الْأُمَّةِ أُمُورٌ لَمْ تَظْهَرْ عَلَى يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا سِيَّمَا الْخَوَاصُّ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ؛ كَفِرَارِ الشَّيْطَانِ مِنْ ظِلِّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ نَازَعَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صَلَاتِهِ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ لِعُمَرَ‏:‏ «مَا سَلَكَتَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ»‏.‏

وَجَاءَ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ «أَنَّ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ تَسْتَحِي مِنْهُ»، وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَجَاءَ فِي أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ‏:‏ «أَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا، فَافْتَرَقَ النُّورُ مَعَهُمَا»، وَلَمْ يُؤْثَرْ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ ظَهَرَ مِثْلُهُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ كُلُّ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ أَوِ الْعُلَمَاءِ أَوْ يُنْقَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْخَوَارِقِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ وَغَيْرِهَا؛ فَهِيَ أَفْرَادٌ وَجُزْئِيَّاتٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ كُلِّيَّاتِ مَا نُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ غَيْرَ أَنَّ أَفْرَادَ الْجِنْسِ وَجُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيِّ قَدْ تَخْتَصُّ بِأَوْصَافٍ تَلِيقُ بِالْجُزْئِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْكُلِّيُّ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ كُلِّيٌّ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْجُزْئِيِّ مَزِيَّةٌ عَلَى الْكُلِّيِّ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجُزْئِيِّ خَاصٌّ بِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْكُلِّيِّ، كَيْفَ وَالْجُزْئِيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إِلَّا بِجُزْئِيٍّ‏؟‏ إِذْ هُوَ مِنْ حَقِيقَتِهِ وَدَاخِلٌ فِي مَاهِيَّتِهِ؛ فَكَذَلِكَ الْأَوْصَافُ الظَّاهِرَةُ عَلَى الْأُمَّةِ لَمْ تَظْهَرْ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَهِيَ كَالْأُنْمُوذَجِ مِنْ أَوْصَافِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَرَامَاتِهِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا عَلَى مِقْدَارِ الِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ ظَاهِرَةً لِلْأُمَّةِ عَلَى فَرْضِ الِاخْتِصَاصِ بِهَا وَالِاسْتِقْلَالِ لَمْ تَكُنِ الْمُتَابَعَةُ شَرْطًا فِيهَا، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فِي شَأْنِ عُمَرَ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّ خَاصِّيَّتَهُ الْمَذْكُورَةَ هِيَ هُرُوبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، وَذَلِكَ حِفْظٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِهِ وَحَمْلِهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحِفْظَ التَّامَّ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ خَاصِّيَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ كَانَ مَعْصُومًا عَنِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا؛ فَتِلْكَ النُّقْطَةُ الْخَاصَّةُ بِعُمَرَ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِرَارَ الشَّيْطَانِ أَوْ بُعْدَهُ مِنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحِفْظُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَقَدْ زَادَتْ مَزِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ خَوَاصُّ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْدَرَهُ اللَّهُ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، حَتَّى هَمَّ أَنْ يَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ تَذَّكَّرَ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏، وَلَمْ يَقْدِرْ عُمَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ عُمَرَ وَلَمْ يَطَّلِعْ عُمَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ آمِنًا مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَإِنْ قَرُبَ مِنْهُ، وَعُمَرُ لَمْ يَكُنْ آمِنًا وَإِنْ بَعُدَ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا مَنَقَبَةُ عُثْمَانَ؛ فَلَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ نَقُولُ‏:‏ هُوَ أَوْلَى بِهَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا عَنْ نَفْسِهِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهَا عَدُمُهَا‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ لِخَاصِّيَّةٍ كَانَتْ فِيهِ وَهَى شِدَّةُ حَيَائِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً، وَأَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا كَانَ الْحَيَاءُ أَصْلَهَا؛ فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الَّذِي حَوَاهُ عَلَى الْكَمَالِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي الْقَوْلُ فِي أُسَيْدٍ وَصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ الْإِضَاءَةُ حَتَّى يُمْكِنَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ لَيْلًا بِلَا كُلْفَةٍ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنِ الظَّلَامُ يَحْجُبُ بَصَرَهُ، بَلْ كَانَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى فِي الضَّوْءِ، بَلْ كَانَ لَا يَحْجُبُ بَصَرَهُ مَا هُوَ أَكْثَفُ مِنْ حِجَابِ الظُّلْمَةِ، فَكَانَ يَرَى

مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ أَمَامِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ، حَيْثُ كَانَتِ الْخَارِقَةُ فِي نَفْسِ الْبَصَرِ لَا فِي الْمُبْصِرِ بِهِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَرَامَاتِهِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أُمَّتِهِ ‏[‏مِنْ‏]‏ بَعْدِهِ وَفِي زَمَانِهِ‏.‏

فَهَذَا التَّقْرِيرُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، وَالْأَخْذُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَتِهِ لَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَرُبَّمَا يَقَعُ لِلنَّاظِرِ فِيهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ إِشْكَالٌ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا بِحَوْلِ اللَّهِ، وَانْظُرْ فِي كَلَامِ الْقَرَافِيِّ فِي قَاعِدَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْخَاصِّيَّةِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏كُلُّ كَرَامَةٍ أَوْ خَارِقَةٍ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي كَرَامَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ‏]‏

وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى كُلِّ خَارِقَةٍ صَدَرَتْ عَلَى يَدَيْ أَحَدٍ؛ فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ فِي كَرَامَاتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعْجِزَاتِهِ؛ فَهِيَ صَحِيحَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ، فَغَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ وَإِنْ ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهَا كَرَامَةٌ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْخَوَارِقِ بِكَرَامَةٍ، بَلْ مِنْهَا مَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ‏.‏

وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالْمِثَالِ أَنَّ أَرْبَابَ التَّصْرِيفِ بِالْهِمَمِ وَالتَّقَرُّبَاتِ بِالصِّنَاعَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةِ قَدْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَفَاعِيلُ خَارِقَةٌ، وَهِيَ كُلُّهَا ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، لَيْسَ لَهَا فِي الصِّحَّةِ مَدْخَلٌ، وَلَا يُوجَدُ لَهَا فِي كَرَامَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْبَعٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِدُعَاءٍ مَخْصُوصٍ، فَدُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَلَا تَجْرِي فِيهِ تِلْكَ الْهَيْئَةُ، وَلَا اعْتَمَدَ عَلَى قِرَانٍ فِي الْكَوَاكِبِ، وَلَا الْتُمِسَ سُعُودُهَا أَوْ نُحُوسُهَا، بَلْ تَحَرَّى مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ عَلَى مَنْ إِلَيْهِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وَاللَّجَأُ إِلَيْهِ، مُعْرِضًا عَنِ الْكَوَاكِبِ وَنَاهِيًا عَنِ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهَا؛ إِذْ قَالَ‏:‏ «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ» الْحَدِيثَ، وَإِنْ تَحَرَّى وَقْتًا أَوْ دَعَا ‏[‏إِلَى تَحَرِّيهِ‏]‏؛ فَلِسَبَبٍ بَرِيءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ كَحَدِيثِ التَّنَزُّلِ، وَحَدِيثِ اجْتِمَاعِ الْمَلَائِكَةِ طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

وَالدُّعَاءُ أَيْضًا عِبَادَةٌ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ، أَعْنِي الْكَيْفِيَّاتِ الْمُسْتَفْعِلَةَ وَالْهَيْئَاتِ الْمُتَكَلَّفَةَ الَّتِي لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ الْأَدْعِيَةُ الَّتِي لَا تَجِدُّ مُسَاقَهَا فِي مُتَقَدِّمِ الزَّمَانِ وَلَا مُتَأَخِّرِهِ، وَلَا مُسْتَعْمَلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَالَّتِي رُوعِيَ فِيهَا طَبَائِعُ الْحُرُوفِ فِي زَعْمِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ كَتَسْلِيطِ الْهِمَمِ عَلَى الْأَشْيَاءِ حَتَّى تَنْفَعِلَ؛ فَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتِ النَّقْلِ، وَلَا تَجِدَ لَهُ أَصْلًا، بَلْ أَصْلُ ذَلِكَ حَالٌ حُكْمِيٌّ وَتَدْبِيرٌ فَلْسَفِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ، هَذَا وَإِنْ كَانَ الِانْفِعَالُ الْخَارِقُ حَاصِلًا بِهِ؛ فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الصِّحَّةِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَتَعَدَّى ظَاهِرًا بِالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، بَلْ قَدْ يُوصَلُ بِالسَّحَرِ وَالْعَيْنِ إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ شَاهِدًا عَلَى صِحَّتِهِ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ صِرْفٌ، وَتَعَدٍّ مَحْضٌ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَزِلَّةُ قَدَمٍ لِلْعَوَامِّ وَلِكَثِيرٍ مِنَ الْخَوَاصِّ، فَلْتُنَبِّهْ لَهُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏تَصَرُّفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُقْتَضَى الْخَوَارِقِ مِنَ الْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ وَالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ‏]‏

وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، وَنَدَبَ، وَتَصَرَّفَ بِمُقْتَضَى الْخَوَارِقِ مِنَ الْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ، وَالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ، وَالْكَشْفِ الْوَاضِحِ، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ؛ كَانَ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ مِمَّنِ اخْتُصَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى طَرِيقٍ مِنَ الصَّوَابِ، وَعَامِلًا بِمَا لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْمَشْرُوعِ، لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ شَرْطِ ذَلِكَ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ زَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ أَمْرَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَتَحْذِيرًا وَتَبْشِيرًا وَإِرْشَادًا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ حُكْمَهُمْ فِي ذَلِكَ حُكْمُهُ، شَأْنُ كُلِّ عَمَلٍ صَدَرَ مِنْهُ وَلَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا تَرَكَ بَعْدَهُ فِي أُمَّتِهِ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا الْبِشَارَةُ وَالنِذَارَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِقْدَامُ وَالْإِحْجَامُ‏.‏

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَاهُ الْمَلَكَيْنِ وَقَوْلِهِمَا لَهُ‏:‏ «نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ لَوْ تُكْثِرُ الصَّلَاةَ»؛ فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّيْلِ»‏.‏

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي ذَرٍّ‏:‏ «إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»‏.‏

وَقَوْلُهُ لِثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ وَسَأَلَهُ الدُّعَاءَ لَهُ بِكَثْرَةِ الْمَال‏:‏ «قَلِيلٌ تُؤَدِي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ»‏.‏

وَقَالَ لِأَنَسٍ‏:‏ «اللَّهُمَّ كَثِّرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ»‏.‏

وَدَلَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُنَاسًا شَتَّى عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، عَمَلًا بِالْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ فِيهِمْ، وَقَالَ‏:‏ «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ»؛ فَأَعْطَاهَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ‏.‏

وَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ‏:‏ إِنَّهُ «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُقَمِّصَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ؛ فَلَا تَخْلَعْهُ»‏.‏

فَرَتَّبَ عَلَى الِاطِّلَاعِ الْغَيْبِيِّ وَصَايَاهُ النَّافِعَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَتَكُونُ لَهُمْ أَنْمَاطٌ وَيَغْدُو أَحَدُهُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةً وَتُرْفَعُ أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ آخِرَ الْحَدِيث‏:‏ «وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ»‏.‏

وَأَخْبَرَ بِمُلْكِ مُعَاوِيَةَ وَوَصَّاهُ، وَأَنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَبِأُمَرَاءٍ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ثُمَّ وَصَّاهُمْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ، وَأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ بَعْدَهُ أَثَرَةً، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ إِلَى سَائِرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا فَوَائِدُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّبْشِيرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْفِرَاسَةِ وَالْكَشْفِ وَالْإِلْهَامِ وَالْوَحْيِ النَّوْمِيِّ؛ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ‏:‏ إِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكَ وَأُخْتَاكَ‏.‏

وَقَوْلِ عُمَرَ‏:‏ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ؛ فَاعْمَلِ النَّصِيحَةَ الَّتِي أَنْبَأَ عَنْهَا الْكَشْفُ‏.‏

وَنَهْيِهِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُصَّ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ‏:‏ «أَخَافُ أَنْ تَنْتَفِخَ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّرَيَّا»‏.‏

وَقَوْلِهِ لِمَنْ قَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَآهُمَا يَقْتَتِلَانِ؛ فَقَالَ‏:‏ مَعَ أَيِّهِمَا كُنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَعَ الْقَمَرِ‏.‏‏.‏ قَالَ‏:‏ كُنْتُ مَعَ الْآيَةِ الْمَمْحُوَّةِ، لَا تَلِي ‏[‏لِي‏]‏ عَمَلًا أَبَدًا‏.‏

وَيَكْثُرُ نَقْلُ مِثْلِ هَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ- نَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ- وَلَكِنْ يَبْقَى هُنَا النَّظَرُ فِي شَرْطِ الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَحْتَمِلُ بَسْطًا؛ فَلْنُفْرِدْهُ بِالْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏مُرَاعَاةُ مَا سَبَقَ تَكُونُ أَنْ لَا تَخْرِمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا قَاعِدَةً دِينِيَّةً‏]‏

وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُرَاعَى وَتُعْتَبَرَ؛ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَخْرِمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا قَاعِدَةً دِينِيَّةً؛ فَإِنَّ مَا يَخْرِمُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَيْسَ بِحَقٍّ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ إِمَّا خَيَالٌ أَوْ وَهْمٌ، وَإِمَّا مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ يُخَالِطُهُ مَا هُوَ حَقٌّ وَقَدْ لَا يُخَالِطُهُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ مِنْ جِهَةِ مُعَارَضَتِهِ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ مَشْرُوعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّشْرِيعَ الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ لَا خَاصٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا، وَأَصْلُهُ لَا يَنْخَرِمُ، وَلَا يَنْكَسِرُ لَهُ اطِّرَادٌ، وَلَا يُحَاشَى مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ مُكَلَّفٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلَّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ مُضَادًّا لِمَا تَمَهَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَهُوَ فَاسِدٌ بَاطِلٌ‏.‏

وَمَنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ رُشْدٍ فِي حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي أَمْرٍ؛ فَرَأَى الْحَاكِمُ فِي مَنَامِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ‏:‏ لَا تَحْكُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ فَإِنَّهَا بَاطِلٌ؛ فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الرُّؤْيَا لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا بِشَارَةٍ وَلَا نِذَارَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَخْرِمُ قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَأْتِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ‏.‏

وَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْفَذَ وَصِيَّةَ رَجُلٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِرُؤْيَا رُئِيَتْ؛ فَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا تَقْدَحُ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِاحْتِمَالِهَا، فَلَعَلَّ الْوَرَثَةَ رَضُوا بِذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا خَرْمُ أَصْلٍ‏.‏

وَعَلَى هَذَا لَوْ حَصَلَتْ لَهُ مُكَاشَفَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ الْمَعِينَ مَغْصُوبٌ أَوْ نَجِسٌ، أَوْ أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ كَاذِبٌ، أَوْ أَنَّ الْمَالَ لِزَيْدٍ وَقَدْ تَحَصَّلَ بِالْحُجَّةِ لِعَمْرٍو، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ؛ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَلَا تَرْكُ قَبُولِ الشَّاهِدِ، وَلَا الشَّهَادَةِ بِالْمَالِ لِزَيْدٍ عَلَى حَالٍ؛ فَإِنَّ الظَّوَاهِرَ قَدْ تَعَيَّنَ فِيهَا بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ أَمْرٌ آخَرُ؛ فَلَا يَتْرُكُهَا اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الْمُكَاشَفَةِ أَوِ الْفِرَاسَةِ، كَمَا لَا يَعْتَمِدُ فِيهَا عَلَى الرُّؤْيَا النَّوْمِيَّةِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ؛ لَجَازَ نَقْضُ الْأَحْكَامِ بِهَا وَإِنْ تَرَتَّبَتْ فِي الظَّاهِرِ مُوجِبَاتُهَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِحَالٍ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ‏.‏

وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيح‏:‏ «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْكُمُ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» الْحَدِيثَ؛ فَقَيَّدَ الْحُكْمَ بِمُقْتَضَى مَا يَسْمَعُ وَتَرَكَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُجْرَى عَلَى يَدَيْهِ يَطَّلِعُ عَلَى أَصْلِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ حُقٍّ وَبَاطِلٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْكُمْ إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعَ، لَا عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي مَنْعِ الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ‏.‏

وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا شَهِدَتْ عِنْدَهُ الْعُدُولُ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ خِلَافَهُ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُمْ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ كَانَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ هَذَا مَعَ كَوْنِ عِلْمِ الْحَاكِمِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا رِيبَةَ فِيهَا، لَا مِنَ الْخَوَارِقِ الَّتِي تُدَاخِلُهَا الْأُمُورُ، وَالْقَائِلُ بِصِحَّةِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ؛ فَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْعَادَاتِ، لَا مِنَ الْخَوَارِقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْعُظْمَى، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّاشِيِّ الْمَالِكِيِّ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ كَانَ قَاضِيًا، قَالَ‏:‏ وَلِشَيْخِنَا فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ جُزْءٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِالرَّدِّ إِنْ كَانَ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ سِوَاهَا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مُشْكِلٍ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ أَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، فَقَدِ امْتَنَعَ أَقْوَامٌ عَنْ تَنَاوُلِ أَشْيَاءَ كَانَ جَائِزًا لَهُمْ فِي الظَّاهِرِ تَنَاوُلُهَا، اعْتِمَادًا عَلَى كَشْفٍ أَوْ إِخْبَارٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا جَاءَ عَنِ الشِّبْلِيِّ حِينَ اعْتَقَدَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ، فَرَأَى بِالْبَادِيَةِ شَجَرَةَ تِينٍ؛ فَهَمَّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا فَنَادَتْهُ الشَّجَرَةُ‏:‏ أَنْ لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي لِيَهُودِيٍّ‏.‏

وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ الْمُهْتَدِي أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَلَيْلَةُ الدُّخُولِ وَقَعَ عَلَيْهِ نَدَامَةٌ، فَلَمَّا أَرَادَ الدُّنُوَّ مِنْهَا زُجِرَ عَنْهَا؛ فَامْتَنَعَ وَخَرَجَ، فَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ظَهَرَ لَهَا زَوْجٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَامَةٌ عَادِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ عَادِيَّةٍ يَعْلَمُ بِهَا؛ هَلْ هَذَا الْمُتَنَاوَلُ حَلَالٌ أَمْ لَا‏؟‏ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ حَيْثُ كَانَ لَهُ عِرْقٌ فِي بَعْضِ أَصَابِعِهِ إِذَا مَدَّ يَدَهُ إِلَى مَا فِيهِ شُبْهَةٌ تَحَرَّكَ؛ فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ‏.‏

وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَفِيه‏:‏ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلَ الْقَوْمُ، وَقَالَ‏:‏ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ؛ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ وَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الْحَدِيثَ؛ فَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَانْتَهَى هُوَ وَنَهَى أَصْحَابَهُ عَنِ الْأَكْلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا مُوَافِقٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُوَ شَرْعٌ لَنَا إِلَّا أَنْ يَرِدَ نَاسِخٌ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ أُمِرُوا بِذَبْحِهَا وَضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِهَا؛ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ؛ فَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْقِصَاصِ، وَفِي قِصَّةِ الْخَضِرِ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْثَرُ فِي مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ كَالْعَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، فَكَمَا لَوْ دَلَّنَا أَمْرٌ عَادِيٌّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ غَصْبِهِ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الِاجْتِنَابُ؛ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِخْبَارٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ، وَرُؤْيَتِهَا بِعَيْنِ الْكَشْفِ الْغَيْبِيِّ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى هَذَا كَمَا يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ فَقَدْ أَبْعَدَ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ لَا نِزَاعَ بَيْنِنَا فِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ مَا ذُكِرَ صَوَابًا، وَعَمَلًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الِاعْتِبَارُ بِمَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْقِيَاسِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، إِذَا لَمْ يَثْبُتُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْخَوَارِقِ مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُعْجِزًا، وَتَكُونُ قِصَّةُ الْخَضِرِ عَلَى هَذَا مِمَّا نُسِخَ فِي شَرِيعَتِنَا، عَلَى أَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَادَاتِ، أَمَّا قَتْلُ الْغُلَامِ؛ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ مَنْسُوخَةٌ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَمُحْكَمَةٌ عَلَى التَّأْوِيلِ الْآخَرِ عَلَى وَفْقِ الْقَوْلِ الْمَذْهَبِيِّ فِي قَوْلِ الْمَقْتُول‏:‏ دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْأَوْلَى، إِذِ الْجَارِي عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ إِنْ قَدَّرْنَا عَدَمَهُ؛ فَنَقُولُ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى نَصٍّ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ طَلَبُ اجْتِنَابِ حَزَّازِ الْقُلُوبِ الَّذِي هُوَ الْإِثْمُ، وَحَزَّازُ الْقُلُوبِ يَكُونُ بِأُمُورٍ لَا تَنْحَصِرُ، فَيَدْخُلُ فِيهَا هَذَا النَّمَطُ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ»، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ هَذَا عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى نُصُوصٍ شَرْعِيَّةٍ عِنْدَ مَنْ فَسَّرَ حَزَّازَ الْقُلُوبِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَنْضَبِطُ إِلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي اعْتِبَارِ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يُخِلُّ بِقَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي مِثْلِ مَسْأَلَةِ ابْنِ رُشْدٍ وَأَشْبَاهِهَا، وَقَتْلِ الْخَضِرِ الْغُلَامَ عَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمِثْلِهِ فِي شَرِيعَتِنَا الْبَتَّةَ، فَهُوَ حَكَمٌ مَنْسُوخٌ، وَوَجْهُ مَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ مِنَ الْحِكَايَاتِ مَا يُشْعِرُ بِمُقْتَضَى السُّؤَالِ؛ فَعُمْدَةُ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ خُصُوصًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاعْتِقَادِ فِي الْغَيْرِ عُمُومًا أَيْضًا؛ فَإِنَّ سَيِّدَ الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ إِعْلَامِهِ بِالْوَحْيِ يُجْرِي الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فِي الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ عَلِمَ بَوَاطِنَ أَحْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُخْرِجِهِ عَنْ جَرَيَانِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ‏.‏

وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَا قَالَ‏:‏ خَوْفًا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ‏:‏ إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ فَالْعِلَّةُ أَمْرٌ آخَرُ لَا مَا زُعِمَتْ، فَإِذَا عُدِمَ مَا عُلِّلَ بِهِ؛ فَلَا حَرَجَ‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ، لِأَنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يُحْفَظَ تَرْتِيبُ الظَّوَاهِرِ؛ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ؛ فَالْعُذْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ، وَمَنْ طَلَبَ قَتْلَهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَمْرٍ غَيْبِيٍّ رُبَّمَا شَوَّشَ الْخَوَاطِرَ، وَرَانَ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَقَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ سَدُّ هَذَا الْبَابِ جُمْلَةً، أَلَا تَرَى إِلَى بَابِ الدَّعَاوَى الْمُسْتَنِدِ إِلَى أَنَّ «الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَاجَ إِلَى الْبَيِّنَةِ فِي بَعْضِ مَا أَنْكَرَ فِيهِ مِمَّا كَانَ اشْتَرَاهُ؛ فَقَالَ‏:‏ مَنْ يَشْهَدُ لِي‏؟‏ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ؛ فَجَعَلَهَا اللَّهُ شَهَادَتَيْنِ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِآحَادِ الْأُمَّةِ‏؟‏ فَلَوِ ادَّعَى أَكْفَرُ النَّاسِ عَلَى أَصْلَحِ النَّاسِ لَكَانَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ، وَالنَّمَطُ وَاحِدٌ؛ فَالِاعْتِبَارَاتُ الْغَيْبِيَّةُ مُهْمَلَةٌ بِحَسَبِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا لَمْ يَعْبَأِ النَّاسُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِكُلِّ كَشْفٍ أَوْ خِطَابٍ خَالَفَ الْمَشْرُوعَ، بَلْ عَدَّوْا أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَقَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مُحْتَمَلَةٌ‏.‏

وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْلِيمِ الشَّجَرَةِ؛ فَلَيْسَ بِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، بِحَيْثُ يَكُونُ تَنَاوُلُ التِّينِ مِنْهَا حَرَامًا عَلَى الْمُكَلَّمِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ فِي الْفَلَاةِ صَيْدًا؛ فَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنِّي مَمْلُوكٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ تَرَكَهُ لِغِنَاهُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ مِنْ يَقِينٍ بِاللَّهِ، أَوْ ظَنِّ طَعَامٍ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، أَوْ نَقُولُ‏:‏ كَانَ الْمُتَنَاوَلُ مُبَاحًا لَهُ؛ فَتَرَكَهُ لِهَذِهِ الْعَلَامَةِ كَمَا يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ لِمَشُورَةٍ أَوْ رُؤْيَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمَاءِ الَّذِي كُوشِفَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَوْ مَغْصُوبٌ، وَإِذَا كَانَ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهَا بِحَيْثُ لَا يَنْخَرِمُ لَهُ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ فِي الظَّاهِرِ، بَلْ يَصِيرُ مُنْتَقِلًا مِنْ جَائِزٍ إِلَى مَثْلِهِ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ لِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْكَشْفِ إِعْمَالًا لِلظَّاهِرِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى الشَّرْعِ فِي مُعَامَلَتِهِ بِهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلَا لَوْمَ؛ إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ بِالْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ أَنْ تَخْرِقَ أَمْرًا شَرْعِيًّا، وَلَا أَنْ تَعُودَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ بِالنَّقْضِ، كَيْفَ وَهِيَ نَتَائِجُ عَنْ اتِّبَاعِهِ؛ فَمُحَالٌ أَنَّ يُنْتِجَ الْمَشْرُوعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، أَوْ يَعُودَ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالنَّقْضِ، هَذَا لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ‏.‏

وَتَأَمَّلْ مَا جَاءَ فِي شَأْنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ؛ إِذْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا؛ فَهُوَ لِفُلَانٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا؛ فَهُوَ لِفُلَانٍ»؛ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَهِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْمَكْرُوهِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يُقِمِ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِه‏:‏ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ هِيَ الْمَانِعَةُ وَامْتِنَاعُهُ مِمَّا هَمَّ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَفَرَّسَ بِهِ لَا حُكْمَ لَهُ حِينَ شَرِعِيَّةِ الْأَيْمَانِ وَلَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ الْأَيْمَانِ مَا قَالَ الزَّوْجُ لَمْ تَكُنِ الْأَيْمَانُ دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهَا‏.‏ وَالْجَوَابُ عَلَى السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ الْخَوَارِقَ وَإِنْ صَارَتْ لَهُمْ كَغَيْرِهَا؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِإِعْمَالِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، إِذَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ شَرْعًا مَعْمُولًا بِهِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْخَوَارِقَ إِنْ جَاءَتْ تَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ، فَهِيَ مَدْخُولَةٌ قَدْ شَابَهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، كَالرُّؤْيَا غَيْرِ الْمُوَافِقَةِ، كَمَنْ يُقَالُ لَهُ‏:‏ لَا تَفْعَلْ كَذَا، وَهُوَ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِفِعْلِهِ، أَوْ افْعَلْ كَذَا، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا لِمَنْ لَمْ يُبَنْ أَصْلُ سُلُوكِهِ عَلَى الصَّوَابِ، أَوْ مَنْ سَلَكَ وَحْدَهُ بِدُونِ شَيْخٍ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَ الْأَوْلِيَاءِ وَجَدَهُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ فِيهَا إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَقَدْ بُنِيَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهَا يُعْمَلُ عَلَيْهَا‏.‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَا أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا بِخَرْمِ قَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَأَمَّا الْعَمَلُ عَلَيْهَا مَعَ الْمُوَافَقَةِ؛ فَلَيْسَ بِمَنْفِيٍّ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في الْعَمَلِ بِالْمُكَاشَفَاتِ‏]‏

إِذَا تَقَرَّرَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الشَّرْطِ؛ فَأَيْنَ يُسَوَّغُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهَا‏؟‏

فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْجَائِزَاتِ أَوِ الْمَطْلُوبَاتِ الَّتِي فِيهَا سِعَةٌ يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهَا بِمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ عَلَى أَوْجُهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ، كَأَنْ يَرَى الْمُكَاشِفُ أَنَّ فُلَانًا يَقْصِدُهُ فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ يَعْرِفُ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ فِي إِتْيَانِهِ مِنْ مُوَافَقَةٍ أَوْ مُخَالَفَةٍ، أَوْ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حَدِيثٍ أَوِ اعْتِقَادِ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَيَعْمَلُ عَلَى التَّهْيِئَةِ لَهُ حَسْبَمَا قَصَدَ إِلَيْهِ، أَوْ يَتَحَفَّظُ مِنْ مَجِيئِهِ إِنْ كَانَ قَصْدُهُ الشَّرَّ؛ فَهَذَا مِنَ الْجَائِزِ لَهُ، كَمَا لَوْ رَأَى رُؤْيَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُعَامِلُهُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا لِفَائِدَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُدْخِلُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَعَلَّهُ يَخَافُ عَاقِبَتَهُ؛ فَقَدْ يَلْحَقَهُ بِسَبَبِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا عَجَبٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْكَرَامَةُ كَمَا أَنَّهَا خُصُوصِيَّةٌ، كَذَلِكَ هِيَ فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ، لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِذَا عَرَضَتْ حَاجَةٌ، أَوْ كَانَ لِذَلِكَ سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ؛ فَلَا بَأْسَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِالْمُغَيَّبَاتِ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُخْبِرْ بِكُلِّ مَغَيَّبٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى مُقْتَضَى الْحَاجَاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ أَنَّهُ يَرَاهُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ لِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ مِنْ غَيْرِ إِخْبَارٍ بِذَلِكَ، وَهَكَذَا سَائِرُ كَرَامَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ؛ فَعَمَلُ أَمَّتِهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ خَوْفِ الْعَوَارِضِ كَالْعُجْبِ وَنَحْوِهِ، وَالْإِخْبَارِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسَلَّمٌ، وَلَا يَخْلُو إِخْبَارُهُ مِنْ فَوَائِدَ، وَمِنْهَا تَقْوِيَةُ إِيمَانِ كُلِّ مَنْ رَأَى ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ بِهِ، وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَنْقَطِعُ مَعَ بَقَاءِ الدُّنْيَا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَحْذِيرٌ أَوْ تَبْشِيرٌ لِيَسْتَعِدَّ لِكُلِّ عُدَّتِهِ؛ فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ، كَالْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ يَنْزِلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا، أَوْ لَا يَكُونُ إِنْ فَعَلَ كَذَا؛ فَيَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ عَلَى وِزَانِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، فَلَهُ أَنْ يُجْرِيَ بِهَا مَجْرَى الرُّؤْيَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ تُرْكَانَ قَالَ‏:‏ كُنْتُ أُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ؛ فَفُتِحَ عَلَيَّ بِدِينَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي‏:‏ لَعَلِّي أَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَهَاجَ بِي وَجَعُ الضِّرْسِ فَقَلَعَتْ سِنًّا، فَوَجِعَتِ الْأُخْرَى حَتَّى قَلَعْتُهَا؛ فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ‏:‏ إِنْ لَمْ تَدْفَعْ إِلَيْهِمْ الدِّينَارَ لَا يَبْقَى فِي فِيكَ سِنٌّ وَاحِدَةٌ‏.‏

وَعَنِ الرُّوذْبَارِيِّ قَالَ‏:‏ فِي اسْتِقْصَاءٍ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ؛ فَضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي، فَقُلْتُ‏:‏ ياَ رَبِّ‏!‏ عَفْوُكَ، فَسَمِعَتْ هَاتِفًا يَقُولُ‏:‏ الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ، فَزَالَ عَنِّي ذَلِكَ‏.‏

وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمِ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْخَوَارِقِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ لِتَكُونَ مِثَالًا يُحْتَذَى حَذْوَهُ وَيُنْظَرُ فِي هَذَا الْمَجَالِ إِلَى جِهَتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ هَذَا النَّحْوُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهِيَ‏:‏